فحديث السودان يجري منه مجرى النفس، ولو هيئ له، أو لو هيئ لك أنت، على الأصح، أن تستمع له لحدثك في شأن السودان ثلاثين عاما متصلة لا ينقطع ولا يتحبس، ولا يتلجلج ولا يتلعثم، ولا يمل ولا يكل، ولا يبطئ ولا يزل.
وللدكتور في مشكلة السودان نظرية طريفة جدا، فإنه يرى أن كل العقدة فيها إنما هي في إقناع المصريين وحدهم بقبوله وإدخاله بلا قيد ولا شرط في ملكهم الخالص، فهو كلما رأى رجلا أو امرأة أو صبيا أو وليدا أقبل عليه «يقنعه» في قوة وحماسة بقبول السودان، وتدفق ما شاء الله أن يتدفق بألوان الحجج لحق مصر في السودان وحاجة مصر إلى السودان، وما أنفقت مصر على فتوح السودان، ومن أبلى من أبناء مصر في حروب السودان. ولو أن رجلا مسح السودان شبرا شبرا، وذرعه فترا فترا، ما كان أعلم به من الدكتور ثابت، على أنه لم يره ولم يزره طول حياته مرة واحدة. وقال له بعضهم يوما: لقد جعلت السودان شغلك يا دكتور حتى أصبحت رمزه في هذه البلاد، فهلا زرته وتفقدت أهله؟ ففتل عثنونه وقال: لا حاجة بنا إلى هذا، فقد عرفناه وخبرناه ... ولا أدري أكان هذا من الدكتور ورعا أم كسلا!
ويظهر أن الدكتور ظن بعد لأي أن المصريين غير مقتنعين بضرورة «أخذ» السودان، فشخص إلى سوريا ليقنع أهلها بضرورة «أخذ» المصريين للسودان! فقد بلغني أن ذلك كان حديث الدكتور هناك في مسائه وصباحه، وغدوه ورواحه، وموضوع مفاكهاته وأسماره، في مقامه وتسياره.
ورأى الدكتور في «أخذ» السودان أبدع من رأي ذلك الفلاح المكاري، إذ قال لإخوانه يوما: كيف لا تهنئوني؟ فقالوا: بماذا؟ فقال: بأنني سأتزوج بنت السلطان! فقالوا له: وهل قضي الأمر؟ قال: بل نصفه، فإنني وأبي قد رضينا ولم يبق إلا هي وأبوها! ... أما الدكتور - أعزه الله - فإنه لا يرى بين المصريين وبين أخذ السودان كاملا بلا قيد ولا شرط، ومن فوقه ملحقاته وملحقات ملحقاته، إلا أن يرضوا هم! ... وقد قلت له يوما: ألا جعلت بعض همك إقناع الإنجليز أيضا بترك السودان لأصحابه المصريين؟ فأجابني بكل قوة وثقة: لا! ما يقولوش حاجة!
حقا، إن هذا الرجل أمة وحده، وإنه لعبقري لا يتدلى إلى منطق الناس وأسباب تصورهم، فإن له قياسه وتقديره، وله منطقه وتفكيره، وله أسلوبه وتدبيره. وأظهر صفاته في هذا الباب أنه لا يحفل بما لا يسمونه الواقع كثيرا ولا قليلا، فحسبه أن يشتهي الأمر فيقدره واقعا، أمكن ذلك الأمر أو استحال، ومثله من تخيل ثم خال. ولقد كان في سنة 1921 يسعى جاهدا في أن ينتظم عضوا في الوفد المصري، وقد وسوس له شيطان من الإنس بأن عدلي باشا فكر في تعيينه مستشارا في الوفد الرسمي لولا أن انتهى إليه أن سعد باشا سيلحقه بالوفد المصري، فكان جوابه على الفور: مافيش مانع يا سيدي! وهكذا طمع الدكتور في أن يكون عضوا، معا، في الوفدين المتقاتلين سنة 1921!
وأذن الله ودخل الدكتور في الوفد المصري طبعة ثالثة أو رابعة بعد ما عصفت القوة بجلة رجاله سنة 1922، ثم بدا له، لأمر ما، أن «يشلحه» فكانت تخرج النداءات والمنشورات ممهورة بتوقيعات رجال الوفد وليس اسم الدكتور فيها، إذ الدكتور مصمم على أنه ما برح عضوا في الوفد يلتمس «لعضويته» المعاذير بأنه ربما دعي للتوقيع فغاب، أو أرسل إليه فلم يبلغه الكتاب، على حد قول الشاعر:
نحن قوم إذا دعينا أجبنا
وإذا ننس يدعنا التط ...
ونقل علنا دعينا فغبنا
وآتانا فلم يجدنا الرسول!
অজানা পৃষ্ঠা