24

شديد العقل، حاضر البديهة، قوي الذاكرة، ملتهب الذكاء، على أنني لا أدري أتفي كل هذه بحاجات لسانه أم لا؟! ...

محام أي محام، وخطيب أي خطيب! لقد يقف في الجمهرة والناس أكثرهم على غير رأيه فيما يجول فيه، فما يزال يدور على مواطن إحساسهم يجسها من ههنا ومن ههنا في رشاقة وخفة قول، ولطف شاهد، وبراعة نكتة، حتى إذا آنس من الآذان تطامنا من جماح، واسترخاء بعد عصيان، هجم منها بكله على النفوس، فظل يهزها هزا، ويرجها رجا. فما الفحل إذا هدر، ولا الليث إذا زأر، ولا البحر إذا زخر، بأشد صولة على الأسماع من الهلباوي يتدفق في الكلام، فما يروعك من هذه الجماهير الواجمة إلا أن تراها، برغمها، قد أرسلت حناجرها بالهتاف، وبعثت أكفها بالتصفيق!

والهلباوي خطيبا يشتري هوى سامعيه بأي ثمن: فهو يجد ويهزل، ويثب ويحجل، ويضحك ويبكي، ويعلو ويسف، ويثقل ويخف، ويكثف ويشف، وينظم الدرر، ثم يرمي بالشرر. وبينا تراه في وداعة العصفور، إذا به في شراسة النمور. كذلك يتشكل هذا الشيخ في خطبه ويتلون لكل مواقع الكلام!

وإذا كان الهلباوي خطيبا عظيما فهو ممثل أعظم! •••

نجم الهلباوي من أسرة في الغربية كريمة العرق، إلا أنها رقيقة الحال، فلما يفع قذفت به إلى الأزهر، فعكف على مدارسة علومه، وقد عرف بين لداته، من صدر أيام الطلب، بالفطنة وحدة الذهن والإكباب على تحصيل الدرس. وعلوم الأزهر، كما تعرف، تقوم على الجدل والمكاثرة بألوان التدليل، وكان الهلباوي فوق «أزهريته» تيك، عنيدا في رأيه، ملحا حتى على أشياخه في حواره، جريئا على مخاصمتهم في كثير مما تسقط عليه أفهامهم في مذاهب الكلام.

وهبط المرحوم السيد جمال الدين الأفغاني مصر، فاتصل به الهلباوي كما اتصل به كثير من أهل المواهب والذكاء، وكان يعلمهم مسائل من الحكمة، ويلقنهم فصولا من فلسفة اليونان كما نقلها العرب عنهم. وقد مد السيد الأفغاني أذهان طلبته إلى كثير مما يحيط بهم، ففجر عقولهم، وجرأ قلوبهم، ودرب ألسنتهم على المنطق والمغالبة بفنون الجدل، وعودهم الجهر بالرأي دون الخوف من أحد. وفي ثنايا هذا كله كان يبعث في نفوسهم دعوة سياسية جريئة.

وخرج الهلباوي بعد هذا إلى ميدان العمل ، فاتصل اتصالا أوفى بالبيئات التي تفهمت حياة الغرب، وتروت علومه الحديثة، وأخذت أحلامها بمنطقه الطريف. وهكذا أصبح الهلباوي خليطا من كل ما تقلب فيه من أطوار الحياة!

وما اجتمعت هذه الأسباب كلها في نفس إلا اضطرمت وثارت، فلا تعود تستريح إلى قرار. فلا عجب إذا كان الهلباوي ثورة دائمة في هيكل رجل، والبركان دائم الفوران، فهو ينفجر من حين إلى حين وإن احتقن إلى حين.

ولقد يكون ما يظنه كثير من الناس ترددا في الهلباوي أثرا من آثار هذه الثورة النفسية، فإن الثورة لا تعرف نظاما ولا تستوي في شبوبها لطريق.

ولعل موقفه يوم دنشواي كان مظهرا من مظاهر هذه الثورة، على أنها هذه المرة كانت أدنى إلى تحدي الجمهور منها إلى ما اعتاد من تحدي السلطاء من أهل الحكم، وفي كل حال فقد كانت منه كبيرة، ولعلها كانت سقطة الرجل العظيم.

অজানা পৃষ্ঠা