أو نهار، إلى مطالعة ديوان شعر، أو النظر في قصة أدبية، أو صورة فنية ليلبوا صوت العاطفة، ويستمعوا نداء الشعور، وأكثرهم قد أحب، وملأ نفسه الحب، فهل بلغ أحدًا أن أديبًا نظر في معادلة جبرية، أو قانون من قوانين الفيزياء أو أحسَّ الحاجة إلى النظر فيها؟ وهذا أكبر عالم في مختبره، يسمع نغمة موسيقية بارعة، أو يرى صورة رائعة، أو تدخل عليه فتاة جميلة عارية مغرية، فيترك عمله ويقبل على النغمة يسمعها، أو الصورة يمعن فيها، أو الفتاة يداعبها، فهل رأيت شاعرًا متأملًا يدع تأمله، أو مصورًا يترك لوحته ليستمع منك قوانين النواس ونظرية لا بلاس؟
هذه مسألة ظاهرة مشاهدة، وتعليلها بيِّنٌ واضح هو أن المثل العليا كلها تجمعها أقطاب ثلاثة: الخير والحقيقة والجمال. فالخير تصوره الأخلاق، والحقيقة يبحث عنها العلم، والجمال يظهره الأدب. فإذا رأيت الناس يميلون إلى الأدب أكثر من ميلهم إلى العلم فاعلم أن سبب ذلك كون الشعور بالجمال أظهر في إلانسان من تقدير الحقيقة ... وانظر إلى الألف من الناس كم منهم يهتم بالحقيقة ويبحث عنها؟ وكم يعنى بالجمال ويسعى للاستمتاع به؟ إن كل من يعنى بالجمال ويتذوقه بل إن كل من يذكر الماضي ويحلم بالمستقبل ويحسّ اللذة والألم واليأس والأمل يكون أديبًا، ويكون الأدب -بهذا المعنى- مرادفًا للإنسانية. فمن لم يكن أديبًا لم يكن إنسانًا.
ولْندع هذا التفريق الفلسفي ولْنفاضل بين العلم والأدب من الناحية النفسية (السيكولوجية) إننا نعلم أن العلم يبحث عن الحقيقة فهو يستند إلى العقل. أما الأدب فيتَّكِئُ على الخيال. فلْننظر إذن في العقل والخيال: أيهما أعمّ في البشر وأظهر؟ لا شك أنه الخيال .. فكثير من الناس تضعف فيهم المحاكمات العقلية، ولا يقدرون على استعمال العقل على وجهه. أو تكون عقولهم محدودة القوى، ولكن ليس في الناس من لا يقدر على استعمال الخيال، وليس فيهم من يعجز عن تصور حزن الأم التي يسمع حديث ثكلها، أو لا يتخيل حرارة النار، وامتداد ألسنة اللهب، عندما يسمع قصة الحريق، بل إن الخيال يمتد نفوذه وسلطانه إلى صميم الحياة العلمية فلا يخرج القانون العلمي
1 / 21