وقد اتصل بمسامع الدوقة شيء من شهرة الأميرال، فودت لو تعرفت بصهره، وفيما كانت تتنزه في حديقة الفندق في اليوم التالي، تلاقت بالكونت دي موري، فأعجبها حسن منظره وهيبة طلعته، ولم تكن تعرفه، فوقفت، ووقف هو كذلك عند عطفة من عطفات مماشي الحديقة ينظر إليها ويعجب بمفاتنها؛ لأنه لم يتفق له أن رأى من تحاكيها في محاسنها الفتانة. نعم، كانت زوجته ذات حسن وكمال، وكان يحبها حبا شديدا ويحترمها، إلا أن تلاقيه بهذه المرأة أثر فيه تأثيرا لم يستشعره في نفسه قبلا. ذلك لأن الدوقة ذكرت وقتئذ أنها «جرجونة»، فاتقدت عيناها ورنت إليه فكأنها رشقته بسهم نافذ، فلم يتمالك أن مد يده إلى قبعته للتحية، ورفعها إجلالا لما وقع عليه بصره من جمال رائع.
فانحنت أمامه الدوقة، ومرت به وهو واقف مبهوت، إلى أن جلست على شرفة الفندق، وإذا بامرأة اسمها اللادي هلتون، وهي أرملة ضابط في البحرية الإنكليزية، جاءت فجالست الدوقة وحادثتها، وهذه متململة تود أن تخلو إلى نفسها، وفيما كانت تهم بالنهوض رأتها تضع منظارها أمام عينيها وسمعتها تقول: هذه صديقتي زوجة الأميرال دي لامارش.
فانثنت الدوقة فأبصرت امرأتين مقبلتين، وبعد هنيهة عرفتها السيدة الإنكليزية بزوجة الكونت دي موري وأمها، ثم أقبل زوجها الكونت، فتم لهما التعرف بالدوقة دي لوقا على يد حماته.
وبعد حديث دار بين المتنزهين قالت الكونتة لزوجها: ألا تصعد معي يا روجر؟ فقال: إني أفضل أن أبقى هنا، إن الجو رائق، وسألحق بك قريبا.
فانصرفت الكونتة وأمها ومعهما اللادي هيلتون، وبقي الكونت دي موري مع الدوقة دي لوقا منفردين، فلبثا صامتين والهوى يتكلم، إلى أن قالت جرجونة: لماذا لبثت ها هنا؟ وكان مطرقا ينكت الأرض بعصاه فلم يرفع بصره إليها، وأجابها: بقيت لأشكرك ... قالت: وأي صنيع صنعت حتى تقابله بالشكر؟ أجاب: إن جمالك زاد حسن هذه الخليقة البديعة.
ورفع بصره إليها في هذه المرة، فأطرقت هي، فقال أيضا: انظري إلى هاتيك الجبال والغابات والبحار، وكل ما تتجلى فيه عظمة الخالق ويعجب به المخلوق، إنني لم أر شيئا من ذلك قبل أن أراك، أما الآن فيلوح لي أن الأمواج الزرقاء، والأشجار الخضراء، والصخور البيضاء، آيات ناطقة بفضلك، وكأنها تقول لك: أنت أجمل وأبدع. أما أنا الرجل الذي وصل بالأمس، بل الضعيف الصغير بالقياس إلى هذه الأشياء العظيمة؛ فإن فؤادي تعصف به عاصفات الأمواج، وتهب فيه أهوية الجبال التي تطأطئ لها رءوس السنديان فأثني على جمالك الباهر؛ لأن بصري يتمتع به ويثمل.
ولو سمعت الدوقة دي لوقا هذه الكلمات من عاشق آخر لما اكترثت لها، إلا أن عاطفة الهوى أثرت فيها أيضا، فوقعت كل كلمة وقعا شائقا في نفسها، فنسيت أنها الدوقة دي لوقا، ولم يخطر لها ما يجب على من تدعى بهذا الاسم، فاسترسلت إلى اضطراب لذيذ لم تعرفه قبلا وهي لم تعرف الحب الحقيقي، ولم تعجب من ذلك الإقرار المفاجئ، فدار بينها وبين الكونت حديث هوى ومغازلة إلى أن نهضت جرجونة، فأبقى يده في يدها كأنه يعاهدها على دوام ذلك الهوى الجديد. ثم افترقا وقد فهم كل منهما أن تلك الساعة التي أنفقاها معا ستعد من ساعات العمر النادرة، وكل منهما مقتنع أن ذلك الشرر لا ينطفئ دون إحداث حريقة هائلة.
وهكذا أقامت الدوقة دي لوقا في الفندق مدة شهرين أيضا، وقد توطدت بينها وبين القوم أركان صداقة ثابتة متينة، وولاء دائم ... فرجع الكل إلى باريس في قطار معا، ثم اكترت الدوقة مسكنا في شارع فارين، هو ملك الكونت دي موري، وفوق منزله، وكان سروره بذلك الجوار لا يوصف.
الفصل الثالث
أما جرجونة فإنها نزلت في ذلك المسكن القديم وهي لا تسعها الدنيا من فرحها بذلك الفوز العظيم، ولا بد من القول أن الكونت دي موري أجفل من ميل فؤاده إلى الدوقة دي لوقا، وحرص على ما بينه وبين زوجته من الحب الذي أتى عليه ثمانية عشر عاما وهو ثابت على السراء والضراء، ورأت جرجونة منه العفاف والفضيلة، فثار ثائرها وانجرحت كبرياؤها، إلا أنها وثقت من نفسها بالفوز لا سيما وأن من تستوهيه قد غدا على مقربة منها لا يحول دونهما حائل كما كان الأمر في فندق أنتيب، فأخذت تهاجم العلاقة التي بين الزوجين بما لديها من أسباب الفتنة والاختلاب، والحق يقال: إنها كابدت عناء شديدا في الهجوم والنضال؛ لأن تلك الأسرة كانت تتصف بالصدق والفضيلة فلم تضعف عزيمة الكونت دي موري.
অজানা পৃষ্ঠা