فأجابه نجيب وقال: لربما كنت محقا في ملاحظتك، ولكن لا تتسرع يا أخي فلعل له عذرا أو غاية مخصوصة يقصدها بحياته هذه ونحن نجهلها، بل لربما كانت السعادة لديه - حسب وجهة نظره - هي في معيشته على هذا النمط؛ لأن السعادة - إن كانت هناك سعادة - تختلف باختلاف وجهة نظر كل واحد، فمنهم من يراها في جمع المال، ومنهم من يراها في المناصب، ومنهم من يراها في الحب، ومنهم من يطلبها من وراء الشهرة، ومنهم من يراها في خدمة الناس، ومنهم من يراها في السكون والانفراد، ومنهم من يراها في طلب العلم والتوسع فيه، ومنهم من يراها في التمتع بالملذات، ومنهم كثير كل واحد على حسب ما يتراءى لها، ولكني أنا يا فريد أرى أن لا سعادة البتة في الحياة؛ لأن الحياة كفاح دائم مستمر، طالما أن سنة التبادل والتوازن طبيعية، وسنة التحول والانقلاب طبيعية أيضا كما بين لنا الشيخ، وكما يثبت ذلك لنا الواقع. وعلى كل، فما لنا ولخصوصياته؟ فإن له من عقله ما يرشده إلى ما يراه أوفق له، ولنعد الآن إلى التفكير فيما قاله لنا، فهذا أولى وأنفع ولنغتنم هذه الفرصة لندرس عليه ونأخذ عنه ما أمكن. فقال فريد: لقد صدقت يا أخي، وسأمضي يوم غد في التفكير لعلي أصل إلى تفهم ما قال أو على الأقل إلى ترويض عقلي على تفهمه. فأجابه نجيب وقال: اسمع يا فريد أريد أن أشير عليك بأمر لعلك توافقني عليه، لقد صرحت لنا علنا ولست أشك بصدقك لما أعلمه عنك وأعرفه فيك من الصراحة والصدق، بأن عاطفة حبك لفريدة قد تلاشت، وأعلم أيضا أن عرى الصداقة متوطدة بينك وبين أفراد عائلتها، فاذهب غدا وزرهم في منزلهم وحادث فريدة كالمعتاد كأن لم يكن شيء مما كان، وسهل السبل لمقابلتنا بها، ولا تسلني الآن عن السبب، فإن لي بحثا أريد أن أجريه. فبهت فريد لهذا الطلب، وعرته الدهشة، وبقي هنيهة حائرا صامتا، ولكنه لعلمه ببعد نظر نجيب، وأن لا بد أن يكون له ثمة غاية معينة يقصدها، وحقيقة يريد أن يستجليها لصالح الفريقين، قبل ذلك رغم ما كان يخشاه من سوء تأثير هذه المقابلة بعد كل ما حصل.
رجع الاثنان إلى منزلهما صامتين لا ينبسان ببنت شفة، ولما اقترب نجيب من منزله صافح فريدا على أمل المقابلة في الغد وتركه. ولما بقي فريد وحده خطر بباله خاطر، فنظر إلى ساعته فوجد أن لم يزل في الوقت متسع؛ فسار يسرع الخطى إلى منزل فريدة؛ لأن اليوم كان يوم استقبال أهلها، وحضوره في مثل هذا اليوم يكون عاديا مألوفا، فلهذا، ولدافع خفي أيضا يجهله سار من ساعته لزيارتهم.
دخل فريد وحي، فقوبل بكل حفاوة وإكرام من آل البيت وممن حضر عندهم من الزائرين، وبعد تبادل عبارات المجاملة مما تطلبه المقام سأل أخو فريدة فريدا عن سبب تغيبه في هذه الأيام عن القهوة حيث كان مجمع الخلان عادة. وقبل أن يجيبه على هذا السؤال دخلت فريدة وكانت شاحبة اللون يدل منظرها على ألم خفي وتأثير نفسي كانت تعلله أمام الحضور بألم في معدتها، ولما رأت فريدا ازداد اصفرارها، ولكنها تجلدت وتقدمت إليه وحيته كالمعتاد دون أن ينتبه أحد لما بدا عليها غيره فدعاها إلى الجلوس بالقرب منه ومن أخيها، ولما جلست أجاب فريد وقال: تسألني عن سبب تغيبي عن القهوة هذه الأيام فما قولك إذا قلت بأني كنت مشغولا بدرس الفلسفة؟ فتبسم أخو فريدة وقال: ولا شك على صديقك نجيب؟ فأجاب فريد وقال: ليس عليه، ولكن معه على شيخ غريب عجيب. فقال أحد الموجودين، وكان يبغض نجيبا ولا يترك فرصة تمر دون الحط من كرامته والسب فيه حسدا وخساسة، وقد تجرأ بتبسم أخي فريدة عند ذكر الفلسفة، فقال: شيخ غريب عجيب أستاذ صديقك نجيب، فطبعا يجب أن يكون مثله، فالطيور على أشكالها تقع، ولكن ما لا أفهمه هو كيف أنك وأنت الكاتب الذكي القدير ترضى بمعاشرة نجيب الغريب الأطوار النصف مجنون؟ وأراد أن يتابع القول؛ ولكن فريدا غضب لهذا وشاركته في غضبه فريدة، لا بل زادت عليه؛ لأنها كانت أدرى بحقيقة نجيب من غيرها، كما اشمأز من هذا التطاول أكثر الحاضرين منهم لمعرفتهم لنجيب ومنهم للتطاول نفسه وللقدح في الناس. فنال الرجل نصيبه من المقت واللوم مما اضطره إلى الخروج، وعاد فريد إلى الكلام فأخبرهم عن معرفته بالشيخ وعن بعض ما قاله وشرحه، فتعجب بعضهم ممن فهم القول كما أن البعض الآخر لم يعر ذلك اهتماما، وكانت فريدة أكثر الحاضرين تعجبا فقالت: يا حبذا لو تمكنت من التعرف بهذا الرجل، قالت هذا مدفوعة بجملة عوامل منها؛ لكونها أديبة متعلمة ذكية، وكانت تتوق لمثل هذه المباحث؛ ومنها لكونها امرأة تحب الاستطلاع بطبيعة الحال، ومنها أنها كانت تريد أن توجد مع فريد للتكلم عن الحادثة. فأجابها فريد: إني غدا قرب المغرب على ميعاد في الجزيرة مع نجيب ومعه، فإذا شئت وشاء الأخ حضرت أنا ونجيب إلى هنا قبل الموعد، فنذهب سويا أو أن نتقابل عند آخر الجسر عند مدخل الجنينة. فقال الأخ: إذا أحببت يا فريد فاحضر غدا مع نجيب إلى هنا فنشرب القهوة ثم نرى رأينا. وعلى هذا تم الاتفاق فاستأذن فريد في الذهاب وودع الحاضرين وخرج.
في اليوم الثاني تقابل فريد مع نجيب فأخبره بكل ما حصل واتفق معه على الذهاب سوية إلى منزل فريدة بعد الظهر، وأخبره أيضا بتطاول ذلك الرجل وما ناله من الحاضرين، فتبسم نجيب وقال: عجيب، فهذه مرة أخرى يصدق معي الحديث «اتق شر من أحسنت إليه»، اعلم يا فريد أن هذا المتطاول مدين لي بحالة اليسر التي هو فيها، فلولاي كان على الحضيض، ولكن لا بأس فالله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
من يصنع الخير لا يعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله والناس
فقال فريد: لقد صدقت، ومثل هذا قد صادفني أيضا مرارا، ولكني لا أدري كيف أعلله وسأسأل الشيخ هذا المساء عله يفيدنا بشيء عنه، فقال نجيب: سأكفيك مؤنة الانتظار حتى المساء وسأكفي الشيخ مؤنة الرد، فإني أفيدك عما طلبت ولعلي مقنعك وأنت حر بأن تقبل أم لا، وعلى كل فإن هذا الحديث يساعدنا على تمضية الوقت لحين موعد الغداء: إن من طبع الإنسان العنفوان وحب السيادة والعظمة سيان في هذا الغني والفقير، الكبير والصغير، العظيم والحقير، وهو لا يأتيك لطلب حاجة إلا مرغما لاحتياجه إليك أو مدفوعا بعامل آخر، فإذا أنلته إياها شعر بأنه مدين لك وهذا يؤلم عنفوانه ويحط من سيادته وعظمته في عينيه، ولربما شعر بإهانة عزة نفسه أمام الآخرين؛ فيزين له الوهم أن يثلم من قدرك أو يسعى ليؤذيك بمالك وبمركزك حتى يظهر بمظهر أهم منك، فينتقم لعنفوانه ولعزة نفسه منك لجهله - وما أكثر الجهال - أما إذا كان ممن تثقف عقلهم حقيقة - وما أقل هؤلاء - عرف لك الجميل وشكر لهذا، واعتمادا على الأكثرية يجب الحذر من انتقام المحسن إليه، ويوجد أيضا أناس بينما يعرفون لك جميلك ويحفظونه تراهم يغمطون إحسان شخص آخر، والعكس بالعكس. وهذا أعلله بتجانس بين الأرواح أو بتنافرها، فالمتعارفة تزداد بمثل هذا تقربا، والمتباعدة تباعدا. ففكر فريد هنيهة ثم قال: لربما كنت مصيبا يا نجيب. وأخذ الاثنان يسردان على بعضهما ما حصل لهما وما سمعا به من مثل هذه الحوادث ويطبقانه على إحدى النظريتين، إلى أن حان وقت الغداء فافترقا على موعد اللقاء أمام منزل آل فريدة.
التقى صاحبانا في الموعد المحدد أمام منزل فريدة فصعدا سوية إليه، وبعد شرب القهوة خرجا وخرجت فريدة وأخوها، وسار الجميع نحو قصر النيل قاصدين الجزيرة فدخلوا إحدى القهوات، وبعد أن شربوا بعض المرطبات وهم يتجاذبون أطراف الحديث طلب سليم أخو فريدة - وكان لا يهمه من الحياة سوى اللهو والطرب ولعب الميسر - أن يعفى من مرافقتهم إلى مقابلة الشيخ؛ لأنه يرغب في الذهاب إلى رهان صيد الحمام. فأجابه فريد: خيرا تفعل يا سليم؛ لأني على يقين من أن منظر الشيخ في نظرك لا يوازي منظر الحمام، ولا حديثه يسليك كحديث من ستكون معهم هناك من الأصحاب، ولكن حيث إنه لم يزل عندنا وقت، فسنرافقك إلى هناك ثم نعود مشيا إلى مقعدنا إذا سمحت بذلك فريدة. فوافق الجميع على هذا ونادوا بإحدى العربات فركبوا، ولما وصلوا إلى محل صيد الحمام تفارقوا على أمل المقابلة مساء. ودخل سليم محل الصيد ونجيب وفريد وفريدة ساروا إلى مقابلة الشيخ؛ يفكر كل منهم بماذا يفتتح الحديث، ولكنهم لم يبتعدوا بضعة أمتار حتى شعر نجيب بقشعريرة هزت جسمه، فنظر حواليه يبحث عن السبب فتنبهت فريدة لهذا وسألته عما به، فقال: لا أعلم لقد شعرت بقشعريرة هزت جميع جسمي من أخمص قدمي إلى قمة رأسي كما لو كنت بالقرب من وحش كاسر أو حية أو قاطع طريق في مكان منفرد؛ لهذا فإني أنظر يمينا وشمالا لعلي أرى الموجب لهذا التأثير الخفي الذي به شعرت، إذ إن شعوري كما لاحظت دائما لم يخن البتة. فأجابه فريد وقال: دع عنا يا أخي مثل هذه الأوهام ولا تزعج فريدة. ففطن نجيب لملاحظته، ولكنه عاود الكلام وقال: نعم إنك مصيب في قولك، ولكن ألا ترى فريدة أننا نحن الاثنان هنا فمما نخاف. لذا أقول لك وأكرر القول بأنه لا بد أن يكون بالقرب من هنا ثعبان أو ذئب أو أي شيء مثل هذا فقفا أنتما هنا فإني مقترب من هذا الهشيم لأتحقق الأمر، قال هذا وتقدم من شاطئ النيل بكل احتراس، ولما دنا منه رأى بضعة عصافير ترفرف بأجنحتها تريد الهرب والطيران ولكنها لا تستطيع الارتفاع، كان هناك قوة تجذبها إليها، ورأى على الأرض ثعبانا رافعا رأسه محدقا بها النظر يتقدم منها رويدا رويدا لافتراسها. فتراجع نجيب قليلا وأومأ إلى فريد بالتقدم وحده بكل ترو وهدوء فجاء وجاءت وراءه فريدة، ولم يكد يقع نظرهما على هذا المشهد حتى ذعرا وهما بالتقهقر، فهدأ روعهما وقال مهلا، فإن لنا بهذا المنظر درسا مفيدا جدا فأنصتا ولا تأتيا بأقل حركة؛ لأني أريد المراقبة إلى النهاية، فقالت فريدة: مسكينة هذه العصافير، فإن هذه الحية ستلتهمها. فأجاب نجيب: لا تخافي عليها، فإني قد احتطت للأمر وسأضربها بهذه الحجارة فتنفر وتخلص العصافير. ولم تزل الحية تدنو والعصافير تقلل من صياحها وحركتها كأن الخوف قد هد منها كل حيل حتى كادت تقع فريسة، عندئذ تناول نجيب الأحجار وأخذ يرشق الحية، وفعل فريد وفريدة فعله فنفرت وهربت وتطايرت العصافير، وتراجع أصحابنا بكل سرعة إلى الطريق.
سار أصحابنا بضع خطوات دون كلام منذهلين مما رأوه، ولكنهم لم يطل صمتهم كثيرا حتى قطعه نجيب بقوله لهما: كيف رأيتما؟ ألم أكن محقا في زعمي؟ لقد قلت لكما ذلك ولكن الصديق فريد لم يرد أن يصدق، فها قد حقق الواقع ما به شعرت. فأجابت فريدة: لقد كنت الآن أفكر بهذا وأقيسه ببعض حوادث جرت أيضا لي، وقد ذكرتني هذه الحادثة بجملة حوادث حصلت لي مع أناس كنت عندما أراهم أشعر بانزعاج أو بعدم ارتياح لمحضرهم، وكان يتحقق دائما انزعاجي بما كان يجري منهم لي، أو بما كان يصدر عنهم مما كنت أراه أو أسمعه عنهم؛ لذا أصبحت تراني يا نجيب أعير أهمية كبرى لأول تأثير عند مقابلتي لأي كان، فما هو السر يا ترى في هذا؟ لعل الشيخ الذي أطنبتما في مدحه يفيدنا عن هذا. فأجاب فريد وقال: إني لا أشك في ذلك، ولكن أرى أن المسائل تراكمت اليوم لدرجة ربما أنستنا ما طلبناه من إيضاح مسائل الأمس، فقال نجيب: لا تخف، فإنا وإن نحن نسينا فهو سيذكرنا به ويفيدنا عنه، ولا سيما أني أعتقد بأن جميع ما حصل اليوم لهو مترابط متماسك مع ما قاله الأمس، وما سيقوله اليوم. قالت فريدة: إني كلما سمعتكما تذكران هذا الرجل يزداد اهتمامي بمعرفته وشوقي لرؤياه واستماع كلامه، فلعله لا يتأخر كثيرا عن الحضور، فها قد قاربنا الوصول، لا بل علنا نراه وقد سبقنا فيكفينا مؤنة الانتظار؛ لأنه مما يشغل الآن فكري كثيرا هو كيف أن هذه العصافير وهي بنات الجو لم تقدر على الهرب من هذه الحية رغم ما كانت تبديه من العزم عليه، بل بقيت محاولتها عبثا كأنها ربطت في مكانها مكهربة من نظر الحية، فما سر هذه القوة التي أوقفتها في مكانها رغم خطر الموت؟ فحالتها والحالة هذه كانت تشبه بعض الشبه حالتي مع هذا الرجل الذي رآني فريد معه في الشارع، فكان سلام فريد كالحجر الذي نفر الحية وأطار العصافير.
فدهش فريد عند سماعه هذا، ولبث صامتا حائرا لا يدري أهل يصدق فريدة وما قالت، أم هل يعد هذا القول ادعاء منها ذرا للرماد في العيون؟! أما نجيب فلم يكن أقل دهشة من فريد، إلا أنه لم يخامره أقل شك فيما قالت، ففكر قليلا ثم تبسم تبسم الفوز لإدراكه ما كان يبغيه، وقال لفريدة: لقد أخبرني فريد بهذا الأمر فاستغربته جدا، وفكرت به طويلا؛ لذا أشرت عليه أمس بالذهاب إليكم سعيا وراء هذه المقابلة لأستوضحك السبب، وكنت من ساعة وجودنا عندكم إلى الآن أفكر بطريقة أفتتح بها هذا الحديث دون أن آلم شعورك، أما الآن وقد قلت ما قلت، فلا حاجة لزيادة الإيضاح، وما مثلك مع الرجل وفريد ومثل العصافير مع الحية ومعنا إلا كمثل ما نشاهده في الجيوش في الحروب، تساق إليها مرغمة بقوة معنوية أكثر منها مادية تضطرها لملاقاة حتفها وهي تنظر إليه ولا يمكنها الهرب منه. قال هذا ونظر إلى الأمام فرأى الشيخ قادما من الجهة المقابلة، فقال: وها هو الشيخ قد حضر، وهو سيوضح لنا هذه المعميات فلنسرع الآن لعلنا نصل قبله، فسار الثلاثة مسرعين، وبعد قليل كان الجميع معا قرب المقعد المعلوم.
অজানা পৃষ্ঠা