والجواب على ذلك هو أن مختارا كان مساقا رغم أنفه، كان محذوفا في تيار الشر بدون إرادته، وأمسى المسكين أسير شهواته لا يملك لنفسه قيادا، هل يصلحه العلم؟ كلا. هل تصلحه الإرشادات والمواعظ؟ كلا. هل يصلحه أبوه إذا قام من القبر؟ كلا. أظن أن الذي يصلحه امرأة فاضلة صالحة كاملة يتزوج بها، فتأخذ حمله عن كتفه وتطلقه من قيد الشر، وتأتي له بطفل ترشده يداه الصغيرتان إلى طريق السعادة. قام مختار بملابس النوم التي كان جالسا بها في قاعة الاستقبال، وتمشى في الدار، فمر بقاعة النوم التي كانت بها أمه وأخته، فسمع شهيقهما وزفيرهما، وهما تغطان في المنام، وكان في قاعة النوم صورة لأبيه كبيرة، فحدثته نفسه بالدخول، فدخل، وكان نور المصباح الذي في غرفة النوم قويا، ونظر إلى الصورة ورأى جسم أبيه النحيل ووجهه الضئيل وعينيه الضعيفتين وجبينه الضيق وأذنيه الرقيقتين.
ولم يلبث مختار وهو يتأمل في صورة أبيه طويلا حتى عاد إلى الوراء فزعا مرعوبا؛ لأنه خيل له أن أباه يفتح عينيه ويقفلهما، فصرخ مختار صرخة عالية ووقع على الأرض.
وتصل تلك الصرخة إلى أذن أمه وأخته، فتهبان من منامهما، الأولى فزعة مضطربة وقلبها خافق ودموعها سائلة خوفا على ابنها؛ لأنها ظنته مات أو جن، والثانية مروعة فاقدة الرشد، أما أمه فلما رأت مختارا ملقيا على الأرض دنت منه وحركته، فتحرك ونظر إليها قائلا: أبي! إن أبي يتكلم! وكانت تلك المرأة الجاهلة المسكينة مريضة بداء القلب، وقد حدث في هذه الأيام ما حرك عليها داءها، فإن غياب مختار أمدا طويلا أقلقها وعكر صفوها، ثم غضبه الليلة عليها قد زاد قلبها تعبا، وأخيرا صرخة مختار وكلماته التي ظنت منها أنه جن قد أتت على آخرها، فسقطت على الأرض وأصابتها نوبة قلبية شديدة، فبقيت تتنفس بألم شديد، واصفر وجهها، وشخصت عيناها إلى السماء، فأتت إليها ابنتها وأجلستها على مقعد على مقربة من النافذة وفتحت النافذة لدخول الهواء، وكانت المسكينة تتطلب النفس من الهواء النقي - على كثرته - فلا تجده، وتشنجت أعصابها وتصبب جبينها عرقا ، وعند ذلك أيقظت أخت مختار خادما صغيرا كان في الدار، وبعثت به إلى دار طبيب كان على مقربة، وبعد هنيهة أتى الطبيب وكان مختار حينئذ قد أفاق من غشيته، ونظر الطبيب إلى المريضة فلم يجد لها مخرجا من تلك النوبة القلبية بغير الحقن بالمورفين فحقنها، وقد حسنت حالها عقب تلك العملية، ولكنها بقيت طول ليلها تتنفس بشدة، وسهرت ابنتها بجانبها تصلح لها الطنافس والوسائد، وقد كانت هذه الليلة من أسود الليالي التي رآها مختار في حياته.
الفصل التاسع
قال محدثي: ولما كان الصباح حسنت صحة الأم المسكينة قليلا، وعادها الطبيب مرة ثانية، وأمر مختارا بأن لا يفارقها لحظة؛ لأنه قال: إن وجوده بجانبها يساعد كثيرا في شفائها.
وفي الليلة الثانية لم يستطع مختار أن يبقى في الدار كما أمره الطبيب؛ ولذلك خرج في عصر النهار، ووعد بأنه سيعود في نصف الليل.
وفي ذلك الحين ذهب إلى حبيبته في المرقص، فقابلته بالترحيب وسألته عن سبب غيابه عنها وعنفته على هجرها وهددته بالغضب والنفور، فحكى لها قصته فتهكمت عليه، وقالت إنه يكذب عليها وإنه أحب غيرها وإنه ... وإنه ... وقالت أخيرا إنه إن لم يبق معها طول الليلة لكان ذلك أكبر دليل على جفائه وهجره.
وعند ذلك وقع مختار في حيص بيص، هل يترك أمه المريضة التي أمره الطبيب بملازمتها، فربما ماتت وهو بعيد عنها؟ أم يترك حبيبته ونور حياته التي تظن أنه كرهها وهجرها، وهذان أمران أحلاهما مر، ولكن يظهر أن قلبه حدثه بأن شيئا هائلا سيحدث الليلة، فاعتذر إلى منيرة وأعطاها دينارا وسلم عليها وانصرف عند نصف الليل، وقد حكى لي مختار بعد ذلك ما رآه في داره، قال: ولما بلغت الدار لقيت عليها علائم السكون والوحشة، وهذا ما لم أكن أره من قبل، ولما فتح الخادم الصغير الباب، رأيته يبكي، فسألته عن سبب بكائه، فقال إن سيدتي الكبيرة في ألم شديد، فنهبت السلم نهبا ودنوت من قاعة النوم، فرأيت ويا هول ما رأيت! رأيت أمي راقدة على سريرها وحولها أختي وبعض النسوة من جيراننا، ورأيت بجانب السرير المنضدة التي كنت أجلس عليها وأنا في المدرسة وعليها زجاجات الدواء، فلما رأتني أختي صرخت وبكت بكاء مرا وشاركها النساء في البكاء، وإني لو عشت ألف سنة لا أنسى تأثير هذا الموقف المحزن، فسألت أختي عن حال أمي، فقالت إنها في الغروب، اشتد عليها المرض، وقطع الطبيب منها الأمل، وعند ذلك سمعت الحشرجة في صدر أمي، فدنوت منها فإذا بوجهها أصفر وعيناها متجهتان نحو السماء ولم أر فيهما نورا، فخفق قلبي خفوقا شديدا، وصرخت قائلا: آه يا أمي، فبكت أختي وبكى كل من في المكان، ثم وضعت يدي على يد أمي وكلمتها، فلم تجب، ولم أسمع سوى الحشرجة التي كانت تزداد في كل لحظة والعرق كان يتصبب بشدة على جبينها البارد، ولكنني لما لمستها رأيت إنسان عينها اليمنى يتحرك نحوي، وعند ذلك تقدمت امرأة عجوز وتناولت قدحا من الماء وبقيت تقطر منه في فم أمي وتضع منه على جبينها البارد، فدنوت من ذلك الجبين وقبلته ...
وبعد هنيهة وصل الطبيب الذي كان يعالجها، ثم حقنها بالمورفين ثلاث مرات، ثم نظر إلى الحاضرين، وقال بعد أن جس نبضها: بقي نصف ساعة، ثم تركنا ونزل ونحن بين باك ومفكر وحزين ...
ثم سكتت الحشرجة، وانتهى ذلك العراك العنيف بين النفس والجسد، وصعدت نفس أمي إلى ربها وتركت جسمها خامدا لا حراك به.
অজানা পৃষ্ঠা