وحدث أنه لما بلغت البنت المتبناة الثالثة من عمرها، ماتت أمها وتركتها حملا ثقيلا على امرأة عجوز كانت تمت لها بحبل القرابة، فلما علمت صاحبتا الضيعة بذلك قربتا الطفلة إليهما وأدخلتاها دارهما، فعاشت بينهما ونمت وشبت وأصبحت صبية جميلة سوداء العينين خفيفة الروح، وكان اسمها «كاتوشا».
وصغرى الأختين صاحبتي الضيعة، واسمها «صوفيا» التي تبنت هذه البنت «كاتوشا»، كانت طيبة القلب كثيرة الشفقة والحنان، أما «ماري» وهي الأخت الكبيرة، فكانت قاسية القلب غليظة الطباع، فكانت «صوفيا» تنفق على ملابس «كاتوشا» وتعلمها القراءة والكتابة؛ وذلك لتكون في مستقبل الأيام سيدة حقيقية، أما «ماري» فكانت ترغب أن تكون «كاتوشا» في المستقبل خادمة أمينة، وكانت تعاقبها إذا هفت، وتضربها أحيانا إذا عملت ذنبا يستحق الضرب، وبهذه الحال أصبحت «كاتوشا» تحت تأثيرين مختلفين، فلذلك جاءت نصفها سيدة ونصفها خادمة أمينة، وكان شغلها الخياطة والاعتناء بتنظيف الغرف والقاعات وجلاء الأيقونات النحاسية، وما شابه ذلك من الأشغال البسيطة، وكانت بعض الأحيان تجلس وتقرأ للسيدتين، وقد عرض عليها الزواج مرتين فلم تقبل؛ لأن الرجلين اللذين خطباها كانا من العملة، وعاشت «كاتوشا» هكذا حتى بلغت ستة عشرة عاما، فأتى إلى الدار ابن أخي السيدتين، وهو صبي جميل غني وطالب علم في إحدى المدارس الجامعة؛ ليقضي بعض أيام مع عمتيه، فأحبته «كاتوشا» رغما عن نفسها، وبعد أربع سنين، عاد هذا الأمير ليقضي مع عمتيه أربعة أيام قبل أن يلحق بالجيش المحارب الذي عين فيه ضابطا، وفي اللية الأخيرة قبل سفره تمكن من «كاتوشا»، وأزال بكارتها وأعطاها ثمن عرضها مائة روبل، وبعد ذلك سافر، ولما مضى على هذه الحادثة المؤلمة خمسة أشهر علمت «كاتوشا» أنها حامل، فضاقت الدنيا في وجهها وكرهت كل شيء، وانحصرت أفكارها في البحث عن طريقة تتخلص بها من العار والفضيحة، وانكسر قلبها، وصارت تهمل في أشغالها، ومرة أهانت السيدتين بكلامها، ثم تابت واستغفرتهما وسألتهما أن تأذنا لها في الخروج فطردتاها، فانطلقت «كاتوشا» طريدة دهر جائر الأحكام، وخرجت تطلب رزقا بعرق جبينها، فدخلت في خدمة ضابط من ضباط البوليس، ولكنها لم تبق عنده أكثر من ثلاثة شهور؛ وذلك أنه كان يبلغ الخمسين من عمره، وكان كثيرا ما يغازلها، ومرة خرج عن حده في مزحه معها، فغضبت غضبا شديدا وشتمته قائلة: «أيها العفريت العجوز المجنون.» ثم لكمته في صدره فوقع على الأرض، فأخرجها للحال من بيته لسوء سلوكها.
وبعد أن غادرته لم تبحث عن محل آخر للخدمة؛ لأن زمن وضعها قد حل، فقصدت منزل إحدى القوابل، وكان الوضع سهلا، ولكن القابلة كانت مصابة بالحمى فنقلت العدوى منها إلى «كاتوشا»، فلزمت الفراش وبعثت بالمولود الصغير إلى ملجأ اللقطاء؛ حيث مات بعد وصوله بقليل، وقبل أن تذهب «كاتوشا» إلى دار القابلة كان معها مائة وسبعة وعشرون روبل، مائة دفعها لها الذي أزال بكارتها وسبعة وعشرون حصلت عليها من دار الضابط، فلما خرجت من دار القابلة كان كل ما معها ستة روبلات؛ لأنها المسكينة لم تكن تعرف فن الاقتصاد السياسي، فكانت تنفق على نفسها كما تشتهي وتعطي كل من يسألها، فأخذت منها القابلة أربعين روبل جزاء الولادة والنفاس، وأخذت المرأة التي نقلت المولود من دار القابلة إلى ملجأ اللقطاء خمسة وعشرين روبلا، واقترضت المولدة أربعين روبلا لتشتري بها بقرة، وأنفقت «كاتوشا» عشرين روبلا في شراء بعض الملابس واللوازم، ولما فقدت «كاتوشا» كل شيء عمدت إلى الخدمة ثانية، ودخلت دار رجل غني فأحبها لأول وهلة، وبدأ يداعبها ويغازلها، وما زال بها حتى تمكن منها، فعلمت بذلك زوجته وكبسته هو و«كاتوشا» في سرير واحد، فضربت «كاتوشا» ضربا مبرحا، فدافعت «كاتوشا» عن نفسها ثم طردت بدون أن تأخذ أجرتها، ولما ضاقت الدنيا في وجهها مرة ثانية، ذهبت لتعيش مع خالة لها؛ لأنها كانت تعرف أن زوج خالتها قادر على وقته، ولكن للأسف كان هذا الزوج قد اعتاد شرب الخمر فافتقر؛ ففتحت زوجته مغسلا تغسل فيه ملابس الناس لتعيش هي وأولادها وزوجها البائس، فلما نزلت «كاتوشا» بخالتها شاءت الخالة أن تعطيها وظيفة «غسالة»، ولكن «كاتوشا» خافت من التعب وبدأت تبحث عن مكان تخدم فيه، فوجدت مكانا خاليا في دار سيدة لها ابنان، وكان أكبرهما بالغا، فلما رأى «كاتوشا» ترك كل دروسه وانتبه لها، وكان يطاردها من مكان إلى مكان ولا يتركها تستريح لحظة، فعادت أمه باللوم على «كاتوشا» وطردتها.
فعادت «كاتوشا» ثانية إلى «حانوت المخدم»، فرأت هناك امرأة سمينة مكشوفة الذراعين وفي يديها أساور من ذهب وفي أصابعها خواتم كثيرة، فلما علمت هذه المرأة أن «كاتوشا» في احتياج إلى الخدمة أعطتها عنوانها ودعتها إلى منزلها، فذهبت «كاتوشا»، فرحبت بها المرأة وقدمت لها فطيرا ونبيذا، ثم كتبت خطابا وأعطته للخادم ليبلغه لأحد الناس، وفي المساء أتى إلى الدار رجل طويل أبيض الشعر له لحية طويلة، ودخل غرفة الجلوس، وجلس بجانب «كاتوشا»، وأخذ ينظر إليها برقة وانعطاف، وبدأ يمزح معها ويداعبها، فدعته صاحبة البيت إلى غرفة مجاورة، وسمعتها «كاتوشا» تقول له: «بنت جديدة من الأرياف.» ثم دعت «كاتوشا»، وقالت لها: «إن هذا الرجل مؤلف، وهو غني، ولو أحبك لا يبخل عليك بشيء؛ فاجتهدي في إرضائه.»
وقد أحب المؤلف «كاتوشا» وأعطاها خمسة وعشرين روبلا، ووعدها بأن يقابلها كلما سنحت له الفرص، فدفعت «كاتوشا» بعض هذه النقود إلى خالتها أجرة سكنها، واشترت بالبعض الآخر قبعة.
وبعد ذلك بأيام قلائل بعث إليها المؤلف، فذهبت له؛ فأعطاها خمسة عشرين روبلا أخرى، وأسكنها في منزل خاص بها، وكان بجوار المنزل الذي استأجره المؤلف ل «كاتوشا» حانوت تاجر، وكان هذا التاجر جميلا، فوقعت «كاتوشا» في حبائل غرامه، وباحت للمؤلف بسرها فأطلقها، واستأجرت لنفسها منزلا منفردا، كان التاجر يتردد عليها فيه.
وبعد أن قضى التاجر من «كاتوشا» حاجته وعدها بالزواج، ثم سافر بدون أن يخبرها، وتركها وحيدة، فأرادت أن تبقى في المنزل، فأنذرها البوليس وأعلمها بأنه يجب عليها أن تسحب «رخصة»، وأن تكون مستعدة للكشف الطبي في أيام معلومة، فعادت إلى خالتها، فلما رأتها خالتها ورأت ملابسها وقبعتها خافت أن تعرض عليها صناعة الغسل، وكذلك «كاتوشا» لم يخطر ببالها أن تصير غسالة؛ لأنها كانت تنظر بحزن شديد إلى الغسالات المسكينات اللاتي أصابهن مرض السل من صناعتهن الشاقة التي تعرضهن للبرد والحر والتعب.
وفي تلك الأثناء لم يبعث الله ببطل كأبطال الروايات الخيالية؛ لينجد «كاتوشا» من فقرها وعارها، ووقعت المسكينة في يد امرأة لها بيت عمومي، وكانت «كاتوشا» قد اعتادت التدخين وشرب الخمر، ولم تكن تحب الخمرة لطعمها، إنما كانت تنسيها همومها وأحزانها، لأنها في حال الصحو كانت تحس بالعار والحزن.
وقد خيرتها صاحبة البيت العمومي بين أمرين، وهما: إما أن تبقى فقيرة تخدم في بيوت الناس، وتطرد من بيت إلى آخر، أو تعيش في بيت عمومي مصرح بفتحه من الحكومة، فيصير لها مركز ثابت وتكسب كثيرا بدون تعب، فاختارت «كاتوشا» البيت العمومي بما فيه من الراحة والنعيم، وخطر ببالها أنها بوجودها فيه يمكنها الانتقام من الذي أزال بكارتها، ومن التاجر الذي أحبته وأخلف وعده معها، ومما زاد في رغبتها في المعيشة في البيت العمومي هو أن صاحبته قالت لها إنه يمكنها أن تلبس الحرير والمخمل، ويمكنها أن تأمر الخياطة بتجهيز كل الملابس كيفما شاءت، فمن الثوب ذي الذيل الطويل إلى الثوب الذي يظهر الأكتاف والصدر، فقالت «كاتوشا» في عقلها: ما أجملني إذا لبست ثوبا من الحرير الأصفر المحلى بالقطيفة السوداء! ثم سلمت نفسها إلى صاحبة البيت العمومي. وفي هذا اليوم نفسه دخلت ذلك البيت الذي صاحبته «كارولين البرتوفنا كتيافا»، ومن ساعة لمست قدم «كاتوشا» عتبة هذا البيت، ابتدأت تعيش عيشة فظيعة ضد الشرائع والآداب الإنسانية، تلك حياة البغيات التي يعيشها مئات الألوف من النساء، وتصرح بها الحكومات، حياة أقل ما فيها أنها تقصف غصن شباب المسكينات اللاتي يقعن في حبائلها، وتنتهي بالعلل والأمراض والموت المعيب، فإن إحدى هؤلاء المسكينات تتيقظ من نومها في الساعة الرابعة بعد الظهر، فتهب من فراش قذر فيأتي إليها بالقهوة، وهي تائهة فاقدة الرشد، ولا تزال في ملابس نومها، فتمشي من مكان إلى مكان في غرفتها أو تطل من النافذة بكسل شديد حتى يخيم الظلام، فتبتدئ المشاجرات بينها وبين شريكاتها في الشقاء، ثم تغسل وجهها، وتعطر جسمها، وتصلح شعرها، وتقيس الملابس الجديدة، وتنظر إلى نفسها في المرآة، ثم تنقش وجهها بالصبغات البيضاء والحمراء، ثم تأكل ثم تلبس الحرير والمخمل، وتنزل إلى غرفة الاستقبال الكبيرة، فيأتي الضيوف وتبتدئ الموسيقى والرقص والسكر والتدخين، ويبتدئ الصراخ والضحك والمشاجرات والتدخين والسكر والموسيقى والصراخ والضحك، ثم الاختلاط برجال مختلفين حتى الصباح، فتنام الواحدة نوما ثقيلا، فتتيقظ الساعة الرابعة بعد الظهر، وهكذا في كل يوم حتى ينتهي الأسبوع، فيذهب كل النسوة إلى مركز البوليس؛ حيث يكشف عليهن أطباء معينون من الحكومة ويصرحون لهن بالمداومة على هذه الحال باسم الحكومة وإذنها، وهكذا في كل أسبوع وكل شهر وكل صيف وشتاء وخريف وربيع وكل سنة.
وهكذا عاشت «مسلوفا كاتوشا» سبع سنين، وقد انتقلت من البيت الأول إلى بيوت غيره، وحجزت في المستشفى مرة.
অজানা পৃষ্ঠা