فزاد صدر سعيد ضيقا ولم يجب، ودار بنفسه أن كل إنسان سعيد إلا هو. وأنكر أن يكون اسمه سعيدا، ورأى فى هذا الاسم تهكما من الأقدار. وخطرت فى هذه اللحظة فتاة أمامه وألقت نظرة سريعة على حديقة القهوة وهى تمر بها، فقال سعيد لنفسه إنه كان خليقا أن يشعر ببعض السعادة لو كانت معه فى هذه الساعة فتاة كهذه تؤنسه بحديثها. ومرت فتيات أخريات وراءها، فقال لنفسه: «ما أكثر الفتيات اللواتى يمشين وحدهن ولا رجال معهن»!
وقال ماسح الأحذية: «شارع ظريف يا بك.. وخصوصا يوم الأحد..» وأشار بيده إشارة عامة يمكن أن تشمل المبانى ومركبات الترام. ورفع وجهه الأسمر إلى سعيد وابتسم له ابتسامة لا تخلو من معنى.. فعبس سعيد، ثم بدا له أن التعبيس لا موجب له، فابتسم متكلفا ورد عينه إلى الشارع ومن يمشين فيه.
وقال الرجل: «بس سعادتك ما بتجيش».
فاحمر وجه سعيد، فقد أدرك غرض الرجل. ولم يخف عليه ما يرمى إليه، وكان الزبيب قد جاء فصب عليه ماء، ورفع الكأس إلى فمه ورشف. وأقبلت إذ ذاك فتاة تعدو على الرصيف وكان جسمها لينا وثوبها محبوكا، فلم يسعه إلا أن ينظر إلى صدرها العارى، وخصرها الهضيم وتحته ردفاها يرتجان، وثناياها اللؤلؤية التى تفتر عنها شفتاها الحمراوان.. فرفع الكأس مرة أخرى وشرب وقال لنفسه: إنه مسكين مسكين ومحروم محروم. ثم ارتد يقول - لنفسه أيضا - إنه ليس مسكينا ولا محروما فإن له زوجة جميلة، وإن فى وسعه أن يعجب ما يشاء بجمال النساء غيرها.. ثم يسكن بعد ذلك إلى زوجته، وأن حسبه من السعادة وفاءها وبرها وإخلاصها. ثم هز كتفيه - وإن كان وحده - وقال: «وما قيمة أن يعجب المرء بالجمال وما خير ذلك؟ وماذا يكون معنى هذا الإعجاب على مسافة أمتار؟ لكأنى أنظر إلى شريط سينما.. ولا فرق بين أن أرى الفتيات يخطرن على الرصيف أمامى، وأن أرى صور النساء فى شريط السينما. إنما تكون للإعجاب قيمة إذا جالس الرجل المرأة وحادثها ونعم بوجودها وحديثها وأنس بمحضرها على العموم. ولكن..» وهز رأسه مرة أخرى متحسرا. فقد كان فيه احتشام وحياء شديد. وكان من غريب أمره أنه يجتنب المجالس التى يختلط الرجال فيها بالنساء. وكان يدعى إلى سهرات من هذا القبيل عند من يعرف من الأجانب والمصريين، فيعتذر ثم يروح يقرع نفسه ويسخط عليها. وكان حياؤه أو شعوره الشديد بنفسه يوهمه أنه ليس مقبول الشكل أو ظريفا، ولا أنس لأحد به. وكان كثيرا ما ينظر إلى نفسه فى المرآة ويدور أمامها، ليرى كيف يبدو من كل ناحية.. فلا تعجبه الصورة التى تطالعه، فيمط بوزه ويقطب وينحط على أقرب كرسى ويروح يفكر فى سوء طالعه، حتى أورثه هذا اضطرابا فى الأعصاب.
وصفق، فقال ماسح الأحذية: «حاجة يا بك»؟
فقال سعيد: «لا..» وتردد فقال: «ناد الجرسون».
فوضع الرجل الفرشاة ونهض، ولما عاد جلس وهو يقول: «أنا خدامك يا بك .. تحت أمرك.. بس اؤمر. أتمنى خدمة.. والله يا بك».
فدار رأس سعيد، وقال لنفسه: «لم يبق إلا هذا.. نعم لم يكن ينقصنى إلا أن أستعين بهذا الرجل.. مصيبة. مثلى يخطر له أن يستعين على سد الفراغ الهائل فى حياته الجافة برجل من هذا الطراز.. ومع ذلك، لم لا..؟ وماذا يستطيع مثله.. إنه لا يسعه شىء أعجز حتى أنا عنه، لأنه إذا كان يعرف أحدا فإنه لا يعرف ولا يمكن أن يعرف إلا الطبقة التى هى كالشمس لكل الناس.. أعوذ بالله.. لا.. ليس هذا ما أريد. ومع ذلك من يدرى.. ألا يمكن أن أختبره»؟
وجاء الجرسون ثم انصرف ليجىء بالكأس الثانية، فخطر لسعيد خاطر، والتفت إلى الرجل وقال: «اسمع: إنى أريد شقة صغيرة.. غرفتين فقط.. شقة أشتغل فيها. البيت ضجة وضوضاء.. شقة صغيرة هادئة.. فى حى محترم..».
فأقبل الرجل على الحذاء يمسحه بهمة ونشاط، وقال: «كثير يا بك.. بس اؤمر».
অজানা পৃষ্ঠা