আরবি সংস্কৃতির আধুনিকীকরণে
في تحديث الثقافة العربية
জনগুলি
قال صديقي وشفتاه منفرجتان عن ابتسامة عرفتها فيه وعرفت ماذا يعني بها، قال: ثم ماذا؟
فأجبته قائلا: صبرا، إنني لم أكمل حديثي؛ وأود أن أضيف إلى ما ذكرته، أنه وإن يكن «الفعل» في الجملة التي يرد فيها يدل على حركة الحدوث فيما يحدث، كأن نقول عن أطفال إنهم «يلعبون» في فناء المدرسة؛ فإن المتأمل لما نعده «اسما» - كائنا ما كان المسمى - مثل: قط، طائر، كتاب، ملعقة، منضدة، وما إليها من أسماء، أقول إن المتأمل لأي اسم من هذه الأسماء يجده منطويا على فعل ما، وفي ظني أن من يعرف اسما من تلك الأسماء؛ فإن معرفته تلك لا تكتمل إلا إذا شملت معرفته بالطريقة أو الطرق التي يدخل بها الشيء المسمى بذلك الاسم في حياة الإنسان، كأن يعرف ماذا عسانا فاعلين بذلك المسمى في حياتنا العملية أو الفكرية، وإذا لم يكن الأمر كذلك؛ فما الذي دعا الإنسان بادئ ذي بدء أن يطلق اسما على شيء لم يدخل في حياته بأي وجه من الوجوه؟ فالذي أريد أن أقوله باختصار، هو أن اللغة بكل جملة يقولها إنسان؛ إنما هي وثيقة الصلة بفعل ما يؤديه إنسان ما من أبناء تلك اللغة، فإذا وجدت في كلام الناس، أو فيما يكتبونه، عبارة أو عبارات، لا تؤدي بطبيعتها إلى عمل يؤدى، أو سيؤدى، أو يمكن عقلا وخيالا أن يؤدى؛ فاعلم أنها لغو فارغ.
فقال صديقي، وشفتاه لم تزالا منفرجتين عن تلك الابتسامة المداعبة: إنني ما زلت أسألك: ثم ماذا؟ لقد كنا نتحدث عن التعليم ومشكلته في بلادنا! فما شأن هذا باللغة وأسمائها وأفعالها وحروفها؟ ما شأن هذا كله بما كنا نتحدث فيه؟!
قلت له: العلاقة وثيقة يا صاحبي؛ فعملية التعليم في بلادنا تملأ رءوس الطلاب بمجموعات من ألفاظ اللغة مفردة ومركبة، ولا فرق في ذلك بين أن تكون المادة العلمية المدروسة ، من الطب أو من الفلسفة أو التاريخ، أو القانون أو ما شئت، وكان المفروض في ذلك المخزون اللفظي الضخم أن يخرج إلى دنيا العمل والتطبيق، والذي يحدث هو أن بعض الدارسين يحققون ذلك، وكثرة غالبة منهم لا تحققه، ومن هنا جاءت مشكلة التعليم في بلادنا؛ إننا نعلم الطلاب مادة علمية صحيحة، لكن معظم الطلاب لا يتعلمون، بمعنى أنهم لا يخرجون مشحونات أدمغتهم إلى دنيا الحياة العملية الجارية، فإما أن تكون علة ذلك في الطريقة التي علمناهم بها، وإما أن تكون في الطريقة التي عالجوا بها ما قد تعلموه.
وهنا حانت مني التفاتة غير مقصودة، إلى ظهر مكتبي، فرأيت عليه أطلسا جغرافيا وفوقه موسوعة. إنه لمن النادر أن أرجع إلى تلك الموسوعة، وأندر منه أن أراجع الأطلس الجغرافي في شيء، لكن هكذا شاءت المصادفات أن يجتمع الاثنان على ظهر مكتبي، فلما رأيتهما لمعت في رأسي فكرة أوضح بها لصديقي ما أردت أن أقوله، فقلت:
انظر يا صديقي إلى هذا الأطلس الجغرافي، وإلى الموسوعة من فوقه، فأما الأطلس ففيه ما يصور لنا الكوكب الأرضي وما عليه، وأما الموسوعة ففيها ما يصور العقل الإنساني وما يحتوي عليه من علوم ومعارف، ولاحظ أن كليهما «صورة» لما يمثله، وليست الصورة هي نفسها الشيء الذي جاءت تلك الصورة لتصوره؛ فليس ما تراه على صفحات الأطلس هو بذاته عالم الأرض التي نعيش عليها، كلا، ولا الذي نراه على صفحات الموسوعة هو نفسه العلوم والمعارف حين تؤدي أدوارها في حياة الإنسان، فانظر - مثلا - إلى خريطة «مصر» في الأطلس؛ تر النيل خطا رفيعا متعرجا، والقاهرة نقطة سوداء صغيرة في موضعها المعروف، لكن النيل الحقيقي ممتلئ بالماء، وعلى سطحه تسير السفن مبحرة ومقبلة، والقاهرة الحقيقية ليست نقطة صغيرة ترسمها سن القلم، إنما هي تزدحم باثني عشر مليونا من البشر، وتنهض فوق أرضها ما لست أحصيه من شوارع وعمارات وجسور ووسائل للمواصلات؛ إنها عالم زاخر بالحياة، ودع عنك الآن ما تضطرب به صدور ساكنيها من مشاعر الفرح والحزن، والرضا والسخط، والانفراج والضيق، فما أبعد الفرق بين نقطة المداد السوداء على الخريطة وذلك البحر الطامي من أمواج البشر! وهكذا الشأن في الموسوعة، فها هنا حروف وكلمات وجمل وفقرات، وكلها ترقيمات سوداء على ورق، لكن هذه النقوش المنقوشة بمداد المطابع، إنما جاءت «لتصور» فكرا وعلما ومعرفة بالكائنات، والفرق بعيد بعد الأرض عن السماء، بين ترقيمات منقوشة تراها العين على صفحات من ورق وما جاءت لتصوره من «فكر»؛ فالفكر الحي ليس شيئا يخزن، بل هو فاعلية تنسكب في فعل يغير الدنيا ويقلقل الجبل من مربضه؛ لتصبح أحجاره مساجد ومعابد ومطارات وعمارات، وغير ذلك من ضروب الفعل الذي هو كامن في تلك الأحرف المرقومة على أوراق تلك الموسوعة.
والآن يا صديقي، تصور مجموعة من الديدان قد تسللت إلى أوراق الأطلس والموسوعة، وأكلتها حتى امتلأت بها بطونها، فهل نقول: إن تلك الديدان ما دامت قد حوت في أجوافها صور الكوكب الأرضي وما ينهض على سطحه من جبال أو يجري من أنهار؛ فقد حوت بذلك كوكب الأرض وما عليه، وما دامت تلك الديدان قد ملأت بطونها بما سطر على صفحات الموسوعة من علوم ومعارف؛ فقد سيطرت بذلك على تلك العلوم والمعارف؟ وعفوا يا صديقي، فما أردت بأبنائنا وشبابنا سخرية، أستغفر الله، فهم هم، أملنا في مستقبل نرجوه، لكن صورة الديدان وهي تأكل الورق وما عليه، على بشاعتها، قريبة الشبه بطلابنا حين يخرجون من جامعاتنا وقد «حفظوا» أو قل «احتفظوا» أو «اختزنوا» في صناديق رءوسهم شيئا مما تلقوه سامعين أو قارئين. وكنت أتمنى أن يقف الخطر عند هذا الحد من سوء الحال، إلا أن الحال أسوأ في حالات كثيرة جدا، وذلك حين يتحول المسموع أو المقروء إلى أخلاط عجيبة من اللفظ، فيفقد اللفظ كل معناه، ومع ذلك فالطالب لا يلحظ أنه قد كتب كلاما بغير معنى، ومن لا يصدق هذا فليراجع أوراق الإجابة عند امتحان الطلاب، ثم نغض النظر عن هذا كله، ولنفرض أن صورة سوية من لفظ مفهوم هي التي خرج بها الطالب من جامعاته؛ فهل تقول عنه إنه قد «تعلم» شيئا، إلا بمقدار ما يكون قادرا على تحويل ذلك المحفوظ إلى «فعل» يجريه في دنيا الناس لتتغير به نحو الأفضل والأنفع والأرقى، وإلا كان كمن سكن في جوف هذا الأطلس الجغرافي، فظن أنه يمرح فوق الكوكب وما يحمل على ظهره، وسكن كذلك في قلب هذه الموسوعة فحسب أنه هو الذي أقام الحضارة بكل ما يتجسد في عمرانها من علم وفكر وفن.
الفرق بعيد بين من يعيش في حصن مغلق الجدران، قوامه مفردات من ألفاظ اللغة، ومركبات من تلك المفردات، وإما أن يبقيها مكتوبة في صحائفها، وإما أن ينقل بعضها ليحفره على ألواح ذاكرته، ولا فرق في هذه الحالة بين أن تكون المادة الفكرية المرصودة في تلك القمائم شعرا أو نثرا، فقها أو نحوا وصرفا، من علوم الفلك والجبر والحساب، أو من علوم الكيمياء والضوء والنبات، أقول إن الفرق بعيد بين من يعيش في برج مصمت قوامه مخزونات لغوية في الكتب أو في جماجم الرءوس، وبين إنسان آخر عنده ما عند الأول، لكنه يخترق به جدران الحصن، ليحيا به في دنيا الأشياء، والأحداث والمواقف؛ فالأول يمكن وصفه بأنه أشبه بمن يتمتم بجملة ينقصها «الفعل» بمعنى أنها جملة جمدت على نفسها كقطعة الحجر! لا تحمل صاحبها على سلوك يسلكه في دنيا الواقع؛ ليحقق به لنفسه وللناس نماء وازدهارا، وأما الثاني، الذي يحصل ما يحصله من معارف وعلوم مصوغة في أبدانها اللغوية أو الرقمية أو ما شاءت لها طبيعتها من رموز؛ لا ليقف عندها مكتفيا بها، بل ليخترقها إلى عالم التطبيق، وإني لأزعم - يا صديقي - أن مصدر العجز كله في نظم التعليم في بلادنا، هو أنها تخرج شبابا من نموذج الإنسان الأول، الذي يقضي حياته في محفوظاته، وعلى الآخرين من أبناء النموذج الثاني أن يتولوا عنه شئون الحياة العملية في إطار العصر وحضارته.
وربما احتاج هذا التعميم الذي أطلقناه إلى شيء من القيود؛ إذ ربما كان ما يصدق على الكليات التي يسمونها كليات «نظرية» لا يصدق على الكليات التي يسمونها «عملية»، فقد تكون هذه الكليات العملية قد أعدت إعدادا يتيح للمتخرجين فيها أن يخوضوا ميادين العمل، وألا يقفوا عند مجموعات من محفوظات محنطة، وأن هذه الصفة مقصورة على بعض الكليات «النظرية»؛ لأن بعضها الآخر شأنه شأن الكليات «العملية» من حيث تخريجها شبابا مستعدا بما قد تعلمه أن ينزل به إلى ميادين العمل، رغم أن موادها الدراسية تدور حول محور الإنسان في حياته الاجتماعية. وإذا كان الأمر كذلك، كان العيب الذي ذكرناه مقصورا على قلة قليلة من الدراسات التي لا يعلم دارسوها أنفسهم أين وكيف يكون لها تطبيق أو ما يشبه التطبيق.
ولست أشك في وجوب هذا التحوط؛ حتى لا نندفع وراء تعميمات جوفاء، ومن ذا الذي لا يعلم أن كثيرا جدا من شئون الحياة العملية، من طب وهندسة، واقتصاد وتشريع وتعليم وغير ذلك، من جوانب الحياة، لا في مصر وحدها، بل على امتداد الوطن العربي طولا وعرضا، ثم إلى كثير مما يجاوز حدود الوطن العربي؛ إنما يضطلع به من تخرجوا في نظام التعليم المصري؟ فإذا كان ذلك كذلك فأين يكون موضع القصور؟ ولماذا نقول إن الموقف كله شبيه بمن حفظ جملة ينقصها الفعل أو بمن عاش داخل صفحات الأطلس الجغرافي وفوقه موسوعة، فظن أنه أمسك بزمام الأرض وما عليها والعقل وما حوى؟
অজানা পৃষ্ঠা