আরবি সংস্কৃতির আধুনিকীকরণে
في تحديث الثقافة العربية
জনগুলি
والبناء الذي نريد أن نتحدث عنه، هو البناء الثقافي من حياتنا، وحقا أن صورة الشيء - أي شيء - لا تكتمل في الأذهان، ولا يكون لها رسوخ، ولا يسهل على الذاكرة استعادتها، إلا إذا تصورنا هيكل بنيانها على أي الخطوط وأي الركائز يقام، تماما كما نتبين قوام الكائن الحي من هيكل عظامه: لقد كنت في أسفاري الكثيرة شديد الولع بمعرفة المدن التي أقيم فيها؛ فكان أول ما أبحث عنه في مدينة حللت بها، هو خريطتها؛ أنشرها أمامي لأمعن النظر إمعانا طويلا في شوارعها وميادينها كيف تتقاطع أو تتوازى؟ وأظل هكذا حتى ترتسم الصورة في مخيلتي؛ وبعد ذلك أقسم المدينة أقساما، لأخصص قسما لكل يوم من أيام إقامتي، لأتجول في أرجائه سيرا على الأقدام، ووقوفا بما يستحق الوقوف عنده من معالم المدينة، وبهذا كنت أغادرها وقد رسخت لها في ذاكرتي صورة هيهات لها أن تمحى.
وهذا الذي كنت أفعله في زيارة المدن، أو غير المدن مما يزار، أفعله هو نفسه - أو ما يماثله - إذا قرأت كتابا، أو مقالا، أو أردت الخروج بفكرة محددة عن كاتب معين في كل ما كتبه وقرأته له، وهو أن أبحث عن «الهيكل الفكري» الذي كساه الكاتب لحما بما ذكره من تفصيلات؛ فإذا لم أقع على هيكل يبين أصلاب الفكرة المعروضة وشرايينها، عرفت أنها «دردشة» دردش بها الكاتب ليزجي فراغا وليهيئ لقارئه فرصة لإزجاء فراغه، ولكن لا هو يملك فكرة يريد عرضها، ولا قارئه خارج منه بفكرة تبقى معه حينا يقصر أو يطول.
وفيما أنا بصدده من محاولات أمس بها حياتنا الثقافية الراهنة، طالبت نفسي بالبحث عن «هيكل» للبناء الثقافي كما أتمناه للوطن العربي بعامة ولمصر بخاصة كي يسهل علي الفهم وبالتالي يسهل الإفهام. ولم أكد أطالب نفسي بهذا حتى شاء لي الله رب العالمين، ولسبب لا أدريه ولا أتبينه، شاء لي أن يجري لساني بقول الله في كتابه الكريم: ... والسماء وما بناها * والأرض وما طحاها * ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها ...
فما أنا إلا أن نقرت ظهر المكتب بإصبعي، هامسا في فرحة الظافر: «هذا هو البناء الثقافي الكامل وهيكله» ثم انتقلت بعد ذلك إلى تحليل وتفصيل.
إنك إذا استعرضت الأنماط الثقافية التي عاشها الإنسان هنا وهنا وهناك، من أرجاء الأرض وفي مختلف الحضارات، رأيت طرفين يروح بينهما الإنسان في ثقافته ويجيء، وهما السماء بكل ما ترمز إليه، والأرض وما تتعلق به ويتعلق بها من ظواهر الكون. وأما السماء فترمز بها إلى الديانات بعقائدها وتشريعاتها وأخلاقياتها، وأما الأرض والكون كله معها فنرمز بها إلى ميادين العلم والعمل على اختلافها، وبين هذين القطبين يعيش الإنسان، فيه بدن من طينة الأرض وجنسها، وفيه روح هي بمثابة همزة وصل بينه وبين السماء وما تعنيه، وعلى أعمدة هذا الهيكل وقوائمه، رأينا ثلاث صور للإنسان في حياته الثقافية: كان خيرها صورة يتوازن فيها الإنسان بين طرفي السماء والأرض، فهو عابد لله وهو في مجال دينه، وهو أيضا عابد لله وهو في دنيا العلم والعمل فوق هذه الأرض، وأما الصورتان الأخريان، فهما ضربان من التطرف، فإما أن يستغرق الإنسان طاقة حياته متعلقا بالسماء وما ترمز إليه مهملا شئون الأرض بل مزدريا لها محقرا من شأنها، وإما أن يتعلق بالأرض التي هي دنياه علما وعملا، فإذا كان التطرف بالصورة الأولى وصفوا حياة الإنسان الثقافية في جملتها بأنها «روحانية» وإذا كان التطرف بالصورة الثانية وصفوا حياة الإنسان الثقافية عندئذ بأنها «مادية»، وإننا لنجد الصور الثلاث جميعا في كل نمط ثقافي عرفه الإنسان: فهناك من الناس من يتوازن بالجمع بين الطرفين وهناك منهم من يتطرف إلى أعلى، ومنهم من يتطرف إلى أسفل، إلا أن العصور التاريخية وكذلك الشعوب المختلفة قد يغلب على العصر المعين منها، أو الشعب المعين، صفة غالبة تميزه: اتزانا أو تطرفا هنا أو تطرفا هناك. ولو أننا وجهنا أنظارنا نحو ما هو كائن بين «السماء وما بناها» و«الأرض وما طحاها» من كائنات أخرى غير الإنسان، من نجوم وكواكب وذر ونبات وحيوان لما وجدنا فيها ذلك التذبذب بين هذا وذاك الذي نراه في الإنسان؛ لأن الخالق جل وعلا قد ألهم تلك الكائنات جميعا خطا واحدا تسير فيه، وكان الإنسان وحده دون سائر الكائنات هو الذي ألهمت نفسه اختيارا بين قدرتين فإما فجور إذا أراد، وإما التقوى إذا أراد، وعليه آخر الأمر يقع الحساب فيما يختار، ومن هنا رأيناه قد اضطرب بين تطرف واتزان.
ونحن إذ نستخدم صفتي «الاتزان» و«التطرف» بشقيه، لا نطلق الأسماء جزافا، فإذا تذكرنا في وعي وفهم، أن من بنى السماء هو من طحا الأرض، وهو الذي سوى النفس الإنسانية على نحو ما سواها، كان لنا كل الحق في أن نصف بالاتزان إنسانا عرف كيف يجمع في نفسه على التقوى سماء وأرضا في وقت واحد ، بمعنى أن يجمع في ثقافته دينا وعلما وعملا، بأقدار تجعل الأركان الثلاثة عمدا تحمل معا سقفا واحدا، وإذا كان اتزان النفس يكمل للإنسان بهذا الجمع المتعاون، نتج عن ذلك أن يكون الاكتفاء بجانب واحد دون الجانبين الآخرين، أو بجانبين دون الثالث، موقفا منقوص البناء معرضا للانهيار.
وفي هذا الإطار نستطيع الحكم على ثقافتنا وثقافات غيرنا، بما يتجه نحو الكمال منها وما يتجه نحو النقص والتشويه. ونظرة عجلى إلى شريط الحضارات وثقافاتها قد توضح لنا - على ضوء الهيكل الذي قدمناه - بأن الحضارة الفرعونية توازنت فيها الثقافة مع بعض الرجحان نحو السماء، فقد امتلأت أرضهم بالصناعة والفن والتشييد والحرب ونظام الحكم، إلا أن الدين كان هو دافع هذا النشاط كله، وكذلك توازنت الحضارة العربية في ثقافتها في عصر المأمون في القرن التاسع الميلادي وامتداده إلى القرن الحادي عشر الميلادي، لأننا إذا أخذنا رسائل إخوان الصفا في موسوعيتها علامة على نزعة الحياة الثقافية عندئذ وجدنا اهتمام القوم قد انصب على كل فروع العلم على حد سواء، لا فرق في ذلك بين علوم طبيعية وعلوم دينية، لكن الحياة الثقافية في أوروبا إبان عصورها الوسطى (من القرن الخامس إلى القرن الخامس عشر) قد تطرفت نحو السماء لدرجة ملحوظة، والحياة الثقافية في الدولتين العظميين في عصرنا هذا قد تطرفت نحو الأرض بدرجة ملحوظة كذلك.
تلك أمثلة مختارة بمقياس كبير، فإذا ضيقنا مقياس الرسم لننظر إلى مساحات محدودة في دنيانا نحن الثقافية وفي زماننا الحديث منه والمعاصر؛ قلنا إن عناصر حياتنا الثقافية قد توازنت خلال الفترة الممتدة من أواخر القرن الماضي وإلى نهاية النصف الأول من هذا القرن، ففي كل فرد من الأعلام الذين حملوا عبء الثقافة على عواتقهم تجد الجمع بين التأثر بموروثنا الثقافي والتأثر بتيارات الفكر في الغرب في توازن يلفت النظر، في حين أن الفترة الراهنة التي نجتازها وبصفة خاصة خلال السبعينيات والثمانينيات تشهد انحرافا واضحا نحو السماء في تكرارية وببغائية تكاد تخلو من لمعة الذكاء.
وهذه الفترة الأخيرة هي التي تهمنا بالدرجة الأولى ، لأنها هي الفترة التي نتنفس هواءها، وهي الفترة التي نعنيها حين نشكو من حالة التعليم والإعلام والثقافة، فإذا سألنا بل ولا بد لنا أن نسأل: ماذا نحن صانعون؟ كان الجواب - فيما أظن - واضحا في ضوء الهيكل البنائي الذي رسمناه، فالذي ينقصنا هو أن ننظر إلى السماء وإلى الأرض معا، نظرتنا إلى العقيدة من جهة والجهاد في سبيلها من جهة أخرى، ويكون هذا الدمج بين الطرفين هو المضمون الإنساني الذي يتمثل في كل فرد من أبناء الشعب، شريطة أن يتسع بنا أفق النظر حين ننظر إلى الجهاد المطلوب بحيث يكون «العلم» بكل فروعه بحثا وتحصيلا وتطبيقا فريضة من العقيدة تتطلب الجهاد في سبيلها، وكذلك قل عن دنيا العمل بكل جوانبها من صناعة وزراعة ومهنة وحرفة، فهذه كلها فروض تفرضها العقيدة الموحى بها من السماء، وينبغي الجهاد في سبيلها. ويتوازى مع العقيدة والجهاد في سبيلها بالعلم وبالعمل نشاط إبداعي في عالم الفن والأدب ليحمل في طيه انعكاسات ما تموج به نفس المواطن العربي من هذا كله.
على أن الآيات الكريمة حين أشارت إلى النفس الإنسانية في ترددها بين السماء والأرض أشارت إلى ازدواجية تلك النفس بين فجور وتقوى؛ بمعنى أن في فطرتها ما يمكن أن يميل بها نحو هذا وما يمكن أن يميل بها نحو ذاك، وبهذا يقام المعيار الذي نميز به بين من حسنت تربيته وثقافته وتعليمه، وبين من ساءت فيه هذه الجوانب، إذ ماذا يصنع المربي فيمن يربيه، والمعلم فيمن يعلمه، وصانع الثقافة فيمن يتلقى صناعته، ماذا يصنع هؤلاء إذا لم تكن حصيلة صناعتهم إنسانا يقوى فيه الجانب المتجه به نحو التقوى بمقدار ما يضعف فيه الجانب المتجه به نحو الفجور؟ وربما كان هذا الموضع من حديثنا هو المناسبة الصالحة للفت الأنظار إلى حقيقة هامة شديدة الصلة بعصرنا، وهي أن «العلم» محايد حيادا تاما بالنسبة إلى التقوى والفجور، أي إلى ما فيه خير الإنسان وما فيه الشر للإنسان، وإنما يأتي الخير والشر نتيجة لحسن استخدام ذلك العلم أو لسوئه؛ فالعلم في ذاته قوة وعلى الإنسان أن يتزود منها ما استطاع أن يتزود، ثم تأتي التربية، وتأتي الثقافة لتزرعها في الأفئدة إحساسا بالحدود التي تقيد استخدامنا لقوة العلم التي اكتسبناها، فإذا كان العلم قد كشف السر عن ذلك المارد الجبار، الذي هو تلك الذرة الشيطانية التي صغرت حجما حتى لتدق فلا ترى بأعظم المجاهير، ولكنها انطوت على قوة تثير فينا الدهشة والذهول، فها هنا يكون على العلم أن يستخلص قوانين ذلك المارد الصغير الكبير، ثم يكون على التربية والثقافة من ناحية أخرى أن تبث القيم الإنسانية في صدور الناس ليتعلموا متى وإلى أي حد يجوز ذلك الاستخدام، ومتى وإلى أي حد لا يجوز ولقد نجح عصرنا في تحصيل العلم ونشره ولكنه فشل في زرع الضوابط القيمية في الصدور.
অজানা পৃষ্ঠা