نعم، كنت أفكر في الأزهر مستعرضا هذا كله جملة وتفصيلا، واقفا من وقت إلى آخر عند قصة تضحكني، وأخرى تغضبني، وثالثة تبعث على شفتي ابتسامة لا تخلو من غيظ ورثاء، ولكن لم كنت أفكر في الأزهر؟ أهي تلك الخواطر التي كانت تضطرب في نفسي الليلة البارحة فتبعث فيها الغضب والثورة؟ نعم، وهذا الأمل الذي أحسسته قبيل سفري حين نشرت الصحف تنصيب الشيخ الجديد، وتنصيب المفتي الجديد، وإن كنت لشديد الأسف لأني لم أستطع أن أصافح هذين الشيخين قبل أن أبرح القاهرة، وإن كنت لشديد الحيرة حين كنت أحاول أن أحلل هذا الشعور الذي وجدته حين قرئ علي في الصحف رفع هذين الشيخين إلى منصب الرياسة الدينية العليا، وإلى منصب الإفتاء.
ذلك أني أعرفهما، وتصل بيني وبينهما صلات قوية، وتصل بيني وبين أحدهما بنوع خاص صلات من تلك التي يحرص الناس على تقديسها، ويجدون شيئا من اللذة في تذكرها واستعراضها؛ أحدهما كان أستاذا لي، والآخر كان شيئا بين الأستاذ والرفيق، سمعت على أحدهما دروسا في علم الكلام وكنت به معجبا، وعنه شديد الرضا، وأسفت أشد الأسف حين ولي القضاء في السودان، فترك الأزهر والدرس فيه. وكان الآخر زميلا لأخي في الدرس، وجارا له في المسكن، وشريكا له في الحياة، وكنت بحكم هذا كله أعاشره وأخالطه أشد المخالطة في جماعة من زملائه وشركائه في الحياة فرقتهم الأيام الآن، وبعدت بيني وبينهم الآماد، واختلفت بيني وبينهم الصلات، إلا هذا الشيخ، فقد بقيت الصلة بيني وبينه على تقلب الدهر وتبدل الظروف واختلاف الحوادث، كما كانت متينة يسيرة، لا كلفة فيها ولا مشقة. هو الآن مفتي الديار المصرية، وكان قبل ذلك رئيسا لمحكمة مصر الابتدائية، وكان قبل ذلك صاحب الصلاة في القصر الملكي، وكان قبل ذلك يشغل منصب القضاء في المحاكم المختلفة، ولكني حين أتصوره الآن أجرده من كل هذه المناصب، ومما تخلع عليه من جلال وهيبة، ولا أتصور منه إلا هذا الطالب الأزهري الذي كنت أعرفه ساذجا يتوقد ذكاء، ويتقطع نشاطا، حادا في المناقشة، غليظ الصوت كأنه الرعد حين يقرر مسألة من المسائل، شديد الحياء، شديد التواضع، قوي الإيمان، لا حد لإخلاصه حين يواجه أمرا من الأمور، أو يعامل صديقا من الأصدقاء، شديد التأثر بما يقرأ، يؤمن به حتى يقرأ ما هو أشد منه تأثيرا في نفسه، فيتبدل رأيا برأي، ونحوا من التفكير بنحو آخر، قويا بنوع خاص في علوم المنطق والفلسفة والتوحيد والفقه والأصول، مزدريا إلى حد غير بعيد علوم النحو والصرف والبيان وما يتصل بها من علوم الرواية، عاش في البيئات المختلفة طالبا وأستاذا وقاضيا، ولكنه ظل كما كان رجلا من أهل الريف، فيه كل ما في الريفيين من وداعة وسذاجة، وفيه خيرة ما في المتحضرين من ذكاء ونشاط.
كان هذا الشيخ كما كان الشيخ الآخر، وكما كان هذا الجيل الذي درس في الأزهر آخر القرن الماضي وأول هذا القرن، من أشد الناس تأثرا بالشيخ محمد عبده وتعصبا له، وإيمانا به، وافتنانا بما كان يدعو إليه. إن هذا الجيل الذي أشير إليه لخليق بالعناية، وإن تاريخنا العصري ليفقد حلقة من حلقاته القيمة إذا لم ينهض بعض المؤرخين لدرس هذا الجيل من الأزهريين، وتقييد ما كان يملؤه من نشاط، وما كان يسيطر عليه من إيمان بالمثل الأعلى، وحرص على التجديد والإصلاح، ونفور من القديم، وسخط وازدراء لأنصاره من الشيوخ.
كان هذا الجيل يؤمن إلى حد التعصب بحرية الرأي، وبغض الجمود، ووجوب الاجتهاد، وتحطيم هذه الأغلال التي كانت تأخذ بأعناق الشيوخ وأيديهم وأرجلهم. وكانوا يختلفون إلى دروس الشيخ محمد عبده في التفسير والبلاغة والمنطق، مؤمنين أشد الإيمان بأنهم ليسوا كغيرهم من طلاب الأزهر يدرسون ليعلموا ما كان يعلمه شيوخهم، إنما كانوا رسل إصلاح وتجديد ونهضة، وكان من ألذ الأشياء وأحبها إلى النفس أن تستمع إليهم وهم يتحادثون بين درس ودرس، يذكرون ما قال الشيخ وما عمل، يقلدونه في الصوت ونبراته، كما كان من ألذ الأشياء وأحبها إلى النفس أن تراهم يسرعون إلى الصحف يقرءون فيها متلهفين ما كان يكتبه خصوم الشيخ، وما كان يوحي به القصر حينئذ من كيد للشيخ، وتأليب عليه. وكان من ألذ الأشياء وأحبها إلى النفس أن تسمعهم وهم يبسطون آمالهم العراض إذا انتهوا من الدرس، وظفروا بالشهادة، وارتفعوا إلى مناصب التدريس والقضاء، إذن فسيدرسون العلم على وجهه، وسينفذون في المحاكم الشرعية آراء الشيخ، وسيمحقون الرشوة محقا، وسيلغون تعدد الزوجات، وسيقيدون الطلاق، وسيؤيدون آراء قاسم أمين التي رضيها الشيخ، وسيحيون فلسفة ابن سينا وابن رشد، وبلاغة الجرجاني، وسيقضون على هذه الكتب السقيمة التي قضت على عقل الأزهر والأزهريين.
وكان من ألذ الأشياء وأحبها إلى النفس أن تستمع إليهم وهم يقلدون شيوخ الأزهر عابثين بهم ساخرين منهم، هذا يتشدق كما يتشدق الشيخ فلان، فيفخم القاف، ويملأ فمه بالراء، في عبارات كلها جهل وغفلة مضحكان، وهذا يتغنى ويترنم في القراءة والتحقيق، وهذا يكثر من قال وقيل وبقي، وهذا يستعمل ألفاظ الريفيين، وهذا يسفه ويشتم، وعلى هذا النحو كان يمر جلة شيوخ الأزهر بين هؤلاء الطلبة العصاة، فلا يخلصون منهم إلا وقد أصابهم من ضروب التشويه والتمثيل شيء كثير.
كانوا كذلك، وكانوا لا يفترون عن درس هذا العلم الأزهري القديم ليصلوا إلى الشهادة، وكانوا يرون هذا العلم شرا لا بد منه، وكانوا يرددون هذه الجملة: «الضرورات تبيح المحظورات.» ثم أبعد شيخهم من الأزهر، فلم يزدهم ذلك إلا حقدا على الأزهر والأزهريين، وافتتانا بالشيخ وتهالكا عليه، يزورونه في عين شمس، ويزورونه في بيت الإفتاء، ثم مرض الشيخ ثم مات، ولا تسل عن القلوب المفطورة، والنفوس المحزونة، والدموع المنهمرة، والزفرات المتصاعدة، والعهود يقطعونها على أنفسهم ليحين سنة الشيخ، وليحققن ما كان يريد من إصلاح. ثم أتيح لهم أن يظفروا بشهادة العالمية، ثم اندفعوا في الحياة العاملة؛ فمنهم الأستاذ، ومنهم القاضي. ولست أريد أن أسألهم عما أحيوا من سنة الشيخ، ولا عما حققوا من ضروب الإصلاح، ولكني ألاحظ أن الحياة العاملة قد غمرتهم وألهتهم عن الشيخ وسنته وإصلاحه، فما يزالون يذكرونه بالخير - إن ذكروه - فأما إذا جد الجد فأنت تعلم كما أعلم أن بلاءهم في الإصلاح والتجديد قليل.
ولقد أذكر فيما أذكر - وأراني أضحك وحدي حين أذكر ذلك - أن جماعة من هؤلاء التلاميذ المحبين للشيخ اتفقوا ذات يوم على أن يسيروا سيرة الشيخ، فيدرسوا لغة أجنبية كما كان الشيخ يتكلم الفرنسية ويفهمها. جلسوا يتحاورون، فأجمعوا على أن في درس اللغة الأجنبية فائدة لا تعدلها فائدة؛ لأن ذلك يمكن من معرفة ما يكتبه خصوم الإسلام والرد عليه. أليس الشيخ قد رد على هانوتو ورينان لأنه كان يعرف لغتهما؟ نعم، لا بد من درس اللغات الأجنبية، ومن السفر إلى أوروبا، ومن تعرف الداء في موضعه لحسمه والقضاء عليه. ولكن أي اللغات يجب أن تدرس؟ قال قائل: «الفرنسية التي درسها الشيخ.» وقال قائل آخر: «الإنجليزية؛ لأنها لغة الحكام ولغة المدارس، ولا بد من أن نعرف هذه اللغة لنكون كهؤلاء الشبان الذين يخرجون من المدارس فيتيهون علينا بهذه الرطانة التي لا نحسنها، وما أيسر أن نلوي ألسنتنا وأفواهنا، ونخرج هذه الأصوات التي يسمونها لغة إنجليزية.»
واتفقوا فيما بينهم، وأرسلوا واحدا منهم إلى مدرسة الجمالية، فاتفق لهم مع شاب من المعلمين في هذه المدرسة على أن يلقنهم الإنجليزية أربع ساعات في الأسبوع، وينقدوه جنيها آخر الشهر؛ وكانوا أربعة. وتستطيع أن تصدقني حين أقول لك إنهم كانوا يشقون على أنفسهم حين يدفع كل منهم نصيبه من هذا الجنيه.
وجاء الشاب ونصب على الحائط لوحته السوداء، واستطاع أن يعلمهم حروف الهجاء، ثم أخذ يعلمهم كيف يلوون الألسنة، ويمدون الشفاه، ويوسعون الحلوق، ويباعدون بين الألسنة وسقف الفم؛ لينطقوا بهذه الرطانة الإنجليزية. ولقد تعب الشاب، وتعبت الجماعة، ولكنهم لم يصلوا إلى طائل، وكنت أنا حينئذ في زاوية من زوايا الغرفة أجلس القرفصاء، وقد انعطف أعلاي على أسفلي، فكأني كرة، وأشهد أني انتفعت بهذه الدروس فأعانتني بعد ذلك بسنين طوال حين أردت أن أتعلم الإنجليزية. لا أعرف هذا الشاب المعلم ولا أذكر اسمه، ولكني مدين له؛ لأنه علمني كيف ألوي اللسان، وأمد الشفتين، وأخرج هذه الرطانة الإنجليزية.
واجتمع أصحابنا ذات يوم إلا واحدا منهم، وإذا هم في ثورة واضطراب، يضحكون ويغرقون في الضحك، ويتهامسون فيما بينهم بحديث لم أكن أتبينه، ثم يضحكون ويغرقون في الضحك - والأطفال مكرة مسرفون في المكر - فقد أحسست حينئذ أن بين القوم سرا يلهيهم ويضحكهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجهروا به لمكاني منهم. وما هي إلا أن أحتال حتى أنسل من الغرفة التي كانوا فيها إلى دهليز ضيق كان أمامها فيه جرة الماء من ناحية، وفيه من ناحية أخرى صندوق من الخشب طويل عريض، كان يحوي كتب أخي، وإلى جانب هذا الصندوق صندوق آخر أعرض منه وأعمق وأقصر، كان فيه ما شاء الله من خبز وعسل وسمن ومتاع، فأنسل أنا من تلك الغرفة إلى الدهليز، وآوي إلى الزاوية بين الصندوقين، فأجلس القرفصاء مسندا ظهري إلى الحائط، معتمدا بشمالي على صندوق الكتب، ويميني على صندوق الخبز.
অজানা পৃষ্ঠা