وسل شيوخ الأزهر وكثرة القسس والرهبان عما في المساجد والكنائس والأديرة من الجمال الفني، فلن تجد عندهم غناء. وأنا أراهن على أنك لن تجد بين شيوخ الأزهر من يستطيع أن يؤرخ الأزهر نفسه من الناحية الفنية، فضلا عن غيره من المساجد، وفضلا عن تذوق هذه الناحية الفنية، وتكوين رأي فيها؛ حيل بين شيوخ الأزهر وبين هذا، وأتيح هذا - لا أقول لغيرهم من المسلمين، بل - لغيرهم من النصارى وأهل الديانات والنحل الأخرى، فسل مدير دار الآثار العربية وهو فرنسي مسيحي يؤرخ لك مساجد القاهرة كلها، ويحلل لك ما فيها من ضروب الجمال الفني على اختلافها وتنوعها.
كل ما أريد من هذه الإطالة إنما هو أن أصل إلى أن الكتب الدينية، والعمارات الدينية، لا ينبغي أن تكون وقفا على أصحابها وحدهم، وإنما هي متاع للإنسانية كلها كغيرها من الآثار الفنية التي كان لها حظ عظيم في تكوين نفسية الأمم والأجيال.
وإذا كان هذا حقا - وهو حق، بل هو واقع كما ترى - فقد بقيت خطوة يجب أن نخطوها، ولست أدري أيتاح لنا أن نخطوها في هذا العصر الذي نحن فيه؟ أم يحول بيننا وبينها الجهل والجمود؟ إذا كان من حق الناس جميعا أن يقرءوا الكتب الدينية ويدرسوها ويتذوقوا جمالها الفني، فلم لا يكون من حقهم أن يعلنوا نتائج هذا التذوق والدرس والفهم ما دام هذا الإعلان لا يمس مكانة هذه الكتب المقدسة من حيث هي كتب مقدسة؛ فلا يغض منها، ولا يضعها موضع الاستهزاء والسخرية والنقد؟ وبعبارة أوضح: لم لا يكون من حق الناس أن يعلنوا آراءهم في هذه الكتب من حيث هي موضوع للبحث الفني والعلمي، بقطع النظر عن مكانتها الدينية؟
أما الغربيون، فقد كسبوا لأنفسهم هذا الحق، وهم يدرسون الكتب الدينية والسماوية وغير السماوية، ويعلنون نتائج درسهم في حرية وصراحة، منهم الغلاة في التعصب لها، والغلاة في التعصب عليها، والمقتصدون بين أولئك وهؤلاء. وأما الشرقيون، فقد كانوا أيام الأمويين والعباسيين آخذين في أسباب هذه الحرية والصراحة، يدرسون ويعلنون نتائج درسهم دون أن يتعرضوا لكثير من الخطر أو الأذى، ولكنهم لم يكادوا يفقدون سلطان السياسة العربية حتى تورطوا في شيء من الجهل والجمود حرمهم هذه الحرية والصراحة، وجعل حسهم فيما يمس الدين يصبح حادا رقيقا شديد التأثر، سريع الانفعال، ثم كان هذا العصر الحديث، ونهضت شعوب الشرق العربي؛ وطلبت حرية الرأي، كما طلبت الحرية السياسية والاقتصادية، في ذلك كله، ووصل بعضها إلى حظ لا بأس به، ولكن الحس الديني ما زال في الشرق العربي رقيقا حادا كما كان، ولعله قد أصبح في هذه الأيام أشد رقة وحدة، وأسرع تأثرا وانفعالا؛ لأن الأهواء السياسية الناشئة قد أخذت تستغل الدين طلبا للغلب والفوز. وأنا أعلم أن هذا طور انتقال، وأن استغلال السياسة للدين في الشرق العربي إنما هو نتيجة الجهل وقلة التجربة، وأن هذه الحال لا بد أن تحول، ولا بد من أن يشعر الساسة غدا أو بعد غد بأن استغلال العواطف الدينية لمصلحة الأهواء السياسية شر منكر يضر كثيرا ولا يغني شيئا. أعلم هذا، وأعلم أنا منتهون غدا أو بعد غد إلى هذه الحرية التي كسبها الغربيون في العصر الحديث، والتي استمتع بها العرب في الشرق حينا إبان القرون الوسطى.
ولكني آسف أشد الأسف لهذا الوقت الذي نضيعه، ونسرف في إضاعته، ونحرم فيه، إن لم أقل لذة البحث والدرس، فلذة الحرية وإعلان الرأي على أقل تقدير.
خطر لي هذا كله في مضجعي من السفينة، وقد آويت إليه لأستريح بعد أن فرغت من قراءة سفر التكوين، فكانت السفينة تقترب مسرعة من مضيق صقلية، وكان المسافرون يزدحمون على الجسر؛ ليروا ما سيتكشف عنه الأفق بعد دقائق من سواحل هذا المضيق.
5
كانت السماء صافية، والجو معتدلا، وكان البحر هادئا يداعبه نسيم طلق خفيف، وكأنما كانت السفينة تنزلق على سطحه الأملس في دعة المطمئن المبتسم للحياة، وكان السفر أفرادا وجماعات يرسلون أعينهم في هذه الناحية أو في هذه، ينظرون إلى إيطاليا أو صقلية، وكان هنا وهناك على الجسر سيدات قد استلقين على كراسيهن الطوال يمعن فيما في أيديهن من كتب لا شك في أنها كانت كتبا قصصية، وربما رفعت إحداهن رأسها، ومدت طرفها مدا طويلا كأنما تريد أن تأخذ مما حولها صورة كاملة قوية، حتى إذا استوفت حظها من ذلك عادت إلى قصصها، وغرقت فيه ريثما تدفعها حاجتها إلى النظر والاستطلاع، فترفع رأسها وتمد طرفها مدة طويلة أخرى. وكان في صالونات السفينة جماعات من الرجال والنساء؛ منهم من يتحدث همسا، ومنهم من يقرأ، ومنهم من يداعب البيانو، فأما «البار» فقد امتلأ بجماعات انتحى بعضها ناحية إلى ورق اللعب، وأخذ بعضها الآخر في حديث لا يخلو من لغط تقطعه من وقت إلى وقت جرع من أشربة مختلفة. وفي ناحية من نواحي هذا البار جلس عالمان من علماء الآثار المصرية، وأخذا يتحدثان عن نقوش ثم عن كتب، ثم ينغمسان شيئا فشيئا في نحو اللغة المصرية القديمة، وفعلها واسم الفاعل فيها بنوع خاص، وهما يتجادلان ويستظهران الأدلة والنصوص حتى نسيا كل النسيان السماء والماء وإيطاليا وصقلية والسفينة وهذه الجماعات اللاغطة من حولهما. وكان أمامهما إلى الناحية الأخرى من المائدة رجلان يعبثان بالعلم والعلماء، والبحث والباحثين، ويتناولان كل شيء في هزل ودعابة لا تحفظ فيهما: أحدهما أستاذ تاريخ في الجامعة المصرية، والآخر أستاذ آداب.
ومضت السفينة في طريقها، ومضى المسافرون فيما كانوا فيه حتى دقت أجراس العشاء، فتفرق أصحاب المائدة الأولى، وبقي أصحاب المائدة الثانية فيما كانوا فيه، ثم تدق الأجراس مرة أخرى فيتفرق هؤلاء ويعود أولئك فيستأنفون ما كانوا فيه؛ من حياة فارغة فيها عبث ولعب، وفيها نشاط، وفيها شراب، وفيها حديث كثير.
وكذلك يقضي أكثر الناس أيامهم في السفن، وفيما تريد أن تقضى هذه الأيام؟ وإنما انصرف السفر عما كانوا فيه من جد الحياة اليومية ليستريحوا ويرفهوا على أنفسهم ؛ فكل يلتمس من الراحة ما يلائم ذوقه ومزاجه ومقدرته على الراحة.
অজানা পৃষ্ঠা