17
ولم يكن التأثر الذي ملك علي نفسي حين تركت الألزاس وقاربت الحدود الفرنسية الألمانية القديمة، وشهدنا الخنادق التي كان يكمن فيها الفرنسيون والألمان يضمر بعضهم لبعض فيها الموت وضروب الإهلاك، ويتحصن بعضهم من بعض فيها بكل صنوف الوقاية وألوانها، بأقل من ذلك التأثر الذي وجدته أمام دير سانت أوديل.
في الدير شعب خاشع أمام الله راغب إليه، يتوسل إليه بالقديسين والأولياء، يلتمس منه الأمن والسعة والعافية والرخاء والتثبيت. وحول هذه الخنادق العميقة المتقاربة، وما يمتد بينها من الأسلاك الشائكة فضاء واسع، فيه صمت عميق مهيب لا يقطعه إلا حفيف الأغصان والأوراق حين يهزها النسيم الهادئ، وإلا تصويت الطير من حين إلى حين ... وأنت تتمثل المأساة المنكرة التي كانت في هذا المكان طوال سنين الحرب، والتي سفكت فيها دماء وأزهقت فيها نفوس، ولقي فيها الإنسان من الإنسان ضروبا من العذاب لا سبيل إلى أن توصف ولا إلى أن يتمثلها الناس وهم آمنون.
نعم، وأنت تسمع في هذا المكان أنين الجرحى وحشرجة صدور الموتى، وتسمع إلى هذا الجند يتكلفون السلوة والعزاء، يشجع بعضهم بعضا، ويواسي بعضهم بعضا، ويضحكون من تعسهم وشقائهم، أنت تسمع هذا كله فيخفق قلبك وتتقطع نفسك أسى، ولكنك لا تستطيع أن تمد الطرف من هذه الناحية أو تلك حتى ترى هنا قبور الفرنسيين وهناك قبور الألمانيين ... ومن عسى أن يكون في هذه القبور؟ وأي أمل طوته هذه القبور؟ وكم عسى أن تكون عدد القلوب التي صدعتها هذه القبور؟ وكم عسى أن تكون النفوس التي اتصلت بهذه الناحية الصغيرة من أنحاء هذا الميدان المنكر ميدان الحرب؟ نفوس الأمهات والآباء، نفوس البنات والأبناء، نفوس الأزواج والصديقات! وانظر فليس مصدر هذا الألم الذي يملك نفسك هذه القبور المبعثرة وما تشتمل عليه من أشلاء ليس إلى تحديدها ولا إلى تعينها من سبيل. ليس مصدر هذا الألم ما ترى من قبور وتسمع فيها وحولها من أنين وحشرجة واستغاثة، ليس هذا كله مصدر هذا الألم فحسب، وإنما الطبيعة نفسها تبعث في نفسك ألما إلى ألم، وتغشي هذا كله بغشاء منكر مخيف.
انظر إلى هذه الأشجار الملتوية والجذوع المحترقة، انظر إلى ما حولك كله وتمثله قبل الحرب، فقد كان نضرا، وكان بديعا، وكانت فيه للناس لذة وبهجة، وكانت فيه للنفوس راحة وأنس، فلما عدا الناس على الناس وقتل بعضهم بعضا لقيت الطبيعة نفسها شر هذا العدوان، فحالت نضرتها وذهبت بهجتها، واستحالت هذه الجنة إلى جهنم. وقد عاد السلم بين الناس الآن، واتصلت بينهم الألفة والمودة، ونسي بعضهم آثام بعض، ولكن هذه القبور ما زالت قائمة، وهذه الخنادق ما زالت عميقة، وهذه الأسلاك الشائكة ما زالت ممتدة ... وهذه الأشجار ما زالت كما تراها؛ منها الملتوي، ومنها الملقى، ومنها القائم لم يبق منه إلى جزعه. وما أحسب أن هذه كله يعين على أن يستقر السلم بين الألمانيين والفرنسيين.
نعم، كانت ساعة رهيبة مؤلمة هذه التي وقفناها عند هذا المشهد، فلم تستطع عيون أن تحبس دمعها، ولم تستطع قلوب أن تستقر في أماكنها، ولم تستطع ألسنة أن تمسك عن لعن الحرب وعشاقها ...
ثم نمضي فإذا الحياة على قرب من هذا المشهد قد أخذت تستأنف نشاطها وقوتها؛ فهذه أشجار الغابات تستبق في الجو كأنها تريد أن تبلغ السماء، وهذه الأطيار تترجح وتترنح على الأغصان، قد أسكرها النسيم العذب الذي يحمل إليها ما في هذه الطبيعة الواسعة المطلقة من أرج وضوء وخصب ونعيم، وهذه الأعشاب تكسو الأرض بألوان مختلفة من الزينة، وتنجم بينها أزهار ضئيلة بديعة الأشكال والألوان، وهذه الأجراس تسمعها من بعد قد ملأت الفضاء وأخذته على سمعك، وهي أجراس القطعان ترتع مرحة فيما يكسو هذه الأرض من عشب، وهذا النسيم الخفيف الفاتر يداعب وجهك ويحمل إليك الدعة والهدوء، ويحبب إليك الحياة والحركة، ومع ذلك فكم شهدت هذه الطبيعة من هول، وماذا عسى أن تشهد غدا أو بعد غد من الهول!
18
ثم نصل إلى حيث كنا نريد أن نصل من هذه المدينة الهادئة الواسعة، مدينة جيرارمير
Gerardmer
অজানা পৃষ্ঠা