قد أثر هذا في التقريب بين الطبقات من ناحية، وفي نشر الثقافة وإلغاء المسافات بين الأمم من ناحية أخرى، فتستطيع أن تفهم أمر هذه الخادم التي أخبرتني بأنها إذا كان الليل آوت إلى سريرها، وأشعلت سيجارتها، واستلقت تدخن وتسمع لهذا الراديو، وهي تستفيد من هذا كله، وتستطيع أن تحدثك الآن عن الكتاب والشعراء والعلماء والموسيقيين، وهي تعتقد أن ليس بينها وبين غيرها فرق في تصور الأشياء والحكم عليها. أما أن هذه الأداة الجديدة من أقوى أعوان الديمقراطية على نشر الثقافة والمساواة فشيء لا شك فيه، ولكن من يدري؟ لعل هذه الأداة الجديدة من أشد الأشياء خطرا على الديمقراطية نفسها ... فهي تنشر المساواة والثقافة بغير حساب وفي غير تقدير، وهي لا تدري أين تلقي ما تلقي من البذور، وهي لا تعلم مقدار استعداد المستمعين لها لإساغة ما تنقل إليهم من المواد، وهي توشك بإسرافها في نشر المساواة أن تكون أداة للشيوعية، وتوشك بإسرافها في نشر الثقافة أن تكون أداة للغرور.
وكذلك تخلق الديمقراطية والعلم من الأشياء والأدوات ما هو عدو للديمقراطية والعلم.
ولكن لهذه الأداة الجديدة نواحي لا تخلو من فكاهة وجد؛ فتصور خطيبا من الخطباء، أو ممثلا من الممثلين، أو أستاذا من الأساتذة يتحدث أو يخطب أو يمثل، وهذه الأداة تنقل عنه ما يقول إلى أطراف من الأرض يجهلها هو، ويجهلها غيره من الناس، وتصور موقع خطبته أو درسه أو تمثيله في نفوس الذين يستمعون له وهم بين معجب وساخط ومزدر، أما أنا فأتمنى لو وفق العلم إلى أن يرد إلى الخطيب والأستاذ والممثل الآثار المختلفة التي يحدثها في نفوس المستمعين إليه، إذن لأحجم كثير من الخطباء والممثلين عن التحدث إلى هذه الأداة. وماذا عسى كان يقول المرشال فوش، أو وزير الحربية الفرنسية، لو ردت إليهما هذه الأداة يوم كانا يخطبان في حفلة من حفلات مدرسة الهندسة، ما كان يقول ابناي وهما يستمعان لهما، وما كان يتبادلان من رأي في أصواتهما وأنغامهما، وما كان يطلبان إليهما من صمت سريع؟!
بل ماذا عسى كان يقول هذان الخطيبان لو ردت إليهما هذه الأداة ما كان يلقاهما به الاشتراكيون والشيوعيون من ألوان السخط والنقمة والوعيد؟!
على أن لهذه الأداة يدا عندي! فكثيرا ما استمعت لصحيفتها التي كانت تتلوها في المساء، وكثيرا ما نقلت إلي من أخبار مصر ما لم أكن أنتظر أن أظفر به إلا بعد أيام حين تصل إلي الصحف المصرية.
8
أريد الليلة أن أضحك، وأن أضحك في انتفاع واستفادة، فما هي إلا أن أقصد إلى أحد الملاعب، أو إلى أحد هذه الملاهي التي لا توجد إلا في فرنسا، بل لا توجد إلا في باريس، وإذا أنا أمام طائفة من الأغاني الهجائية فيها ألذ ما يسمع ويضحك، ويدعو إلى التفكير والعبرة والعظة.
بالقرب من السوربون يقوم ملهى يسمى
Les Noctambules
لا أستطيع أن أذهب إلى باريس دون أن أزوره، وقد زرته هذه السنة، فمهما أقل فلن أستطيع أن أصف لك ما وجدت فيه من لذة مضحكة باعثة على التفكير. ليس في هذا الملهى شيء غريب، وإنما هم جماعة من المغنين الهازلين يتعاقبون أمامك، يسمعك كل منهم طائفة من الأغاني لا جد فيها، أو قل كلها جد ولكنها صيغت في صيغة الهزل، وقد أرادت المصادفة أن أصل إلى باريس هذه السنة بعد انتهاء الانتخابات البرلمانية، وأن تكون الأغاني التي تسمع في هذا الملهى كلها متصلة بالحياة الفرنسية السياسية. فلو قد سمعت هذا العبث الذي لا حد له برئيس الجمهورية، ورئيس الوزارة، والوزراء والنواب والشيوخ، والبرامج السياسية لأولئك وهؤلاء والجمهورية نفسها، ونظم الحكم الأخرى، لسألت نفسك إلى أي حد من الفوضى يريد أن يصل الفرنسيون؛ ذلك أنهم لا يحفلون بشيء، ولا يقدرون شيئا، ولا يرعون لنظام ولا قانون حرمة ولا ذمة، وإنما يعرضون عليك كل شيء عاريا مجردا، يظهرون لك منه أقبح ما يمكن أن يظهر، لا يكرهون أن يتناولوا حياة رئيس الجمهورية الخاصة بأقبح ما يمكن أن يتناول به من ألفاظ التشنيع، فأما رئيس الوزارة القائمة بوانكاريه، فالفرنسيون يحبونه، ولكن ذلك لا يعفيه من أن يعرض عليك في أقبح صورة، وأفظع شكل، وإذا المغنون يعبثون به خطيبا، ويعبثون به وزيرا، ويعبثون به منقذا للمالية الفرنسية، ثم يتناولون معدته وأمعاءه وكبده وكلاه، وقل مثل ذلك في وزراء فرنسا وزعمائها، فإذا فرغ المغنون من السياسة والساسة التفتوا إلى العلم والعلماء، وكم تلقى السوربون ورجالها من سخرية هؤلاء الساخرين، وأغرب ما في الأمر أن كثيرا جدا من هذه الأغاني الهجائية يخرج من السوربون نفسها، ينشئ بعضه الطلاب، ولعل من الأساتذة من لا يتحرج عن إنشاء بعضه الآخر.
অজানা পৃষ্ঠা