نعم، وقد افتقدت بائع الخضر الذي كان يحب المزاح، والذي كان يحمل أمتعتي كلما سافرت من باريس أو عدت إليها.
وافتقدت بائعة اللبن التي كانت سيئة الخلق، تخيف المختلفين إليها، وتملؤهم رعبا وفزعا.
وأنا أسأل عن الظاعن وعن المقيم، وأجد في السؤال والجواب لذة وذكرى يملؤها الحنان.
ولكن ليس هذا كل ما طرأ على باريس أو على حيي في باريس من صنوف التغيير؛ فقد حدث في هذا الحي كما حدث في غيره من أحياء باريس شيء جديد لم أكن أعرفه، وقد احتجت إلى زمن طويل لأتعوده، وتركت باريس ولما تطمئن نفسي إليه، فوجدته في غير باريس، وكأن الله قضى بأن أجده أمامي حيثما توجهت في فرنسا فأضيق به، وأحتمله على كره، وهو مستقر متسلط في هذه الطبقة السادسة من هذا البيت الهادئ في هذه الغرفة الضيقة المسرفة في الضيق التي طالما قضيت فيها الساعات الطوال إلى كتاب من كتب الفلسفة أو التاريخ هادئا مطمئنا، لا أكاد أسمع ضوضاء السيارات ثقيلها وخفيفها، وهو مستقر متسلط في مدخل هذا الفندق الذي عرفته منذ عامين، صامتا شديد الصمت، ساكنا مغرقا في السكون، وهو مستقر متسلط في حوانيت الباعة على اختلافها، ماذا أقول؟ بل مستقر متسلط في المحطات، حيث تعودنا ألا نسمع إلا صفير القطر وضجيجها، وصياح العمال وحملة الأمتعة، وذلك هو الراديو ...
قد انتشر في باريس وانتشر في فرنسا، بل في أوروبا ، انتشارا مخيفا، كما تنتشر الأمراض المعدية، أو كما تنتشر الصحف التي تنشر الأخبار والقصص السهل وتباع بثمن زهيد.
تجده في غرفة البوابة، وتجده في كل طبقة من طبقات البيوت، ولا تكاد تخطو في باريس الهادئة المطمئنة خطوة دون أن تسمع هذا الصوت الذي لا هو بصوت الرجال ولا بصوت النساء، وإنما هو شيء بين بين، يخرج من الأنف متغنيا متحدثا، ممثلا خطيبا، معلنا مفتنا فيما شاء الله من فنون الجد واللهو، التي تعودتها الجماعات في البلاد المتحضرة. وقد نظم أمر الراديو، كما نظمت الصحف تنظيما ديمقراطيا دقيقا، ملاكه السرعة والكثرة والرخص. فقد مضى ذلك العصر الذي كان الجمال الفني فيه مقصورا على الأغنياء وأصحاب اليسار، وأصبح من حق الناس جميعا أن يتعلموا ويقرءوا، ويشهدوا التمثيل، ويسمعوا الموسيقى، ويعرفوا أخبار الأرض كلها، وأخبار السماء إن كانت للسماء أخبار، ولا قيمة للديمقراطية إذا لم تسو بين الأغنياء والفقراء في الاستمتاع بهذه الحظوظ من لذات الحياة وآلامها.
والديمقراطية جادة في أداء واجبها؛ فهي تمحو الفروق بين الطبقات، وتجعل الناس سواسية ما استطاعت إلى ذلك سبيلا. كل الناس يستطيع الآن أن يقرأ الصحف، والصحف تنافس أشد التنافس في أن تحمل إلى الناس جميعا من الأخبار والآثار الأدبية والعلمية والاقتصادية والتجارية أضخم مقدار وأيسره هضما.
ولكن القراءة تحتاج إلى وقت، وهي تصرف القارئ عن كثير من الأعمال، وهناك أشياء لا يمكن أن يقرأها الناس جميعا، وأشياء لا يمكن أن يسمعها الناس جميعا، وأشياء لا يمكن أن يشهدها الناس جميعا؛ ومن الحق على الديمقراطية أن تقرب هذه الأشياء كلها إلى الناس جميعا، وقد وفقت الديمقراطية بفضل العلم إلى هذا التقريب، فأصبح أشد الناس فقرا في فرنسا يستطيع - في غير مشقة ولا جهد، ولا انصراف عن العمل - أن يأخذ بحظه من كل اللذات التي يمكن أن تصل إلى النفس من طريق السمع.
يكفي أن تشترك في الراديو - وليس الاشتراك فيه شاقا ولا كثير النفقة - فتقرأ عليه الصحف مرات في كل يوم. وإذا ذكرت الصحف فأنا أستعمل الكلمة في معناها الدقيق، فتصور صحيفة من الصحف وما فيها من المواد: من الأخبار والمقالات الأدبية والعلمية والقصص، وأنباء السوق والبورصة، وأخبار البلاد الأجنبية، وكل ما يمكن أن تشتمل عليه صحيفة خليقة بهذا الاسم. واعلم أن هذا كله يتلى على المشترك في الراديو مرة على الأقل في كل يوم.
ثم ليس الأمر مقصورا على هذا، وإنما يحمل الراديو إلى المشتركين فيه ما يكون في الملاعب ودور الموسيقى واللهو من تمثيل وعزف وغناء ومزح، ذلك كله دون أن يتكلف المشترك من المشقة إلا إدارة زر من أزرار الكهربا، فإذا سئم أو مل أدار الزر مرة أخرى فيقطع الصوت ويعود الهدوء، قد أثر هذا في الطبقات الفقيرة التي كان من العسير عليها جدا أن تختلف إلى الملاعب ودور اللهو، وإلى المحاضرات ومعاهد العلم، أو أن تجد من الوقت ما يمكنها من القراءة، والأخذ بحظ من الثقافة العامة.
অজানা পৃষ্ঠা