وسمعتها مرة تقول له: إنني لا أخاف على أملنا أحدا من الناس سوى ولدك قسطنطين، فقد علمت أمس من بعض أصدقائه أنه ينكر عليك كل الإنكار هذا المسعى الذي تسعاه اليوم، كما سمعت أنه يثبط الناس عنك ويزحزحهم من حولك، ويلقي في قلوبهم اليأس من نجاحك. ولقد حدثني عنه بعض الناس أن ذاكرا ذكر له مرة ولاية العهد مهنئا إياه بها، فغضب واحتد وتغيظ عليه تغيظا شديدا وقال له: «إنني جندي ولدت في ساحة القتال وسأموت فيها.» وإن كلمة كهذه الكلمة المؤثرة يقولها أمير مطاع في الجيش والشعب كولدك لا بد أن تترك أثرا سيئا في نفوس الناس جميعا، وتفت في عضد أنصارك وأعوانك، وربما كانت سببا في القضاء على آمالك وأمانيك، ولا أعلم لخطته هذه سببا سوى ذلك البغض الشديد الذي لا يزال يضمره لي في أعماق قلبه مذ دخلت بيتكم حتى اليوم، وما أذنبت إليه ذنبا ولا أسلفت عنده جريرة، فهو يؤثر أن يحرم نفسه وبيته ذلك الشرف العظيم الخالد على أن يراني جالسة على العرش بجانبك أستظل بظل نعمتك، وأشاركك في التمتع بمجدك وسلطانك، فقاطعها الأمير وقال لها: لا تصدقي يا بازيليد شيئا مما يقولون، فقسطنطين أبر بي وأعظم حبا وإخلاصا من أن يعترض سبيل رغبة يعلم أني أرغبها وأصبو إليها، ولا أعلم أنه يبغضك أو يضمر لك في نفسه شيئا من الشر الذي تذكرين، بل هو يحترمك ويجلك إجلاله إياي، ويحب لك من الخير ما يحب لي ولنفسه، ولا يؤثر على مرضاتنا شيئا.
وكذلك ظلت ميلتزا تسمع أمثال هذه الأحاديث فتعلم منها ما يدور بنفسي هذين الشخصين الطامعين، وتعلم أن هذا الذي يدور بنفسيهما إنما هو علة ذلك الهم الذي يعالجه قسطنطين في أعماق قلبه ويكابده، ولكن لم يخطر ببالها مرة أن تنقل إليه شيئا مما سمعته؛ إعظاما له وإجلالا، وضنا بنفسها وبأدبها أن تفاتحه في أمر لم يشأ هو أن يفاتحها فيه.
التاج
جاء اليوم المعين لاجتماع الجمعية الوطنية للنظر في انتخاب الملك الجديد، فنظرت في المسألة نظرا خالصا مجردا عن الميل والهوى، فرأت أن العدو لا يزال على الأبواب، وأنه لا يزال قوي الشكيمة صعب المراس، وأن الوطن يحتاج إلى الأمير برانكومير قائدا أكثر مما يحتاج إليه ملكا، وأن الأسقف «أتين» أعظم رجال المملكة عقلا، وأسماهم إدراكا، وأقواهم سلطانا على نفوس الجيش والشعب، فقررت تقليده ملك البلقان، وأعلنت قرارها في جميع أنحاء المملكة، فقابله الشعب بالرضا والتسليم، ولم يختلف عليه إلا العدد القليل من أشياع القائد وأنصاره.
ثم أقيمت حفلة التتويج بعد أيام، فحضرها جميع وجوه المملكة وعيونها، ورجال السياسة والجيش، ما عدا القائد برانكومير، فلم يأخذه الملك بهذه الهنة، بل أعتبه وأعطاه من نفسه الرضا، ولم يقنع في أمره بذلك حتى أعلن عزمه على السفر إلى الحدود لزيارته في قلعته، وما لبث أن سافر في جمع من حاشيته وجنده، وكانت رسله قد تقدمته لإنباء القائد بمقدمه، فامتعض لذلك وتمرمر، وكانت تحدثه نفسه أن يسافر إلى بعض الجهات حتى لا يستقبله عند قدومه، لولا أن أشارت عليه بازيليد بغير هذا الرأي، فأذعن لها راغما، ونزل بانتظاره أمام باب القلعة حتى حضر، فحياه الملك حين رآه تحية الإجلال والإعظام، وعانقه عناقا طويلا، وقال له: أما الملك الجالس على عرش البلقان وصاحب الأمر والنهي فيه فهو أنت يا برانكومير، أما أنا فإني خادمك الأمين المخلص، القائم بتنفيذ أوامرك، وتجييش الجيوش لك، وإمدادك بما تحتاج إليه من العدة والمئونة.
واعلم أن الأمة لم تضن عليك بالعرش والتاج، ولا رأت أن أحدا أجدر بهما منك، ولكنها ضنت بك أنت - وأنت حصنها المنيع، ودرعها الواقية، وبطلها الذي لا يغني غناءه في موقعة أحد - أن يشغلك شاغل الملك عن شأنك الذي أنت فيه، والذي نصبت له نفسك طول حياتك، فآثرت بقاءك في هذه القلعة تحميها وتحمي المملكة بحمايتها، فإن لم تكن الملك الجالس على عرش «فيدين»؛ فأنت الملك المتبوئ عرش الأفئدة والقلوب، واعلم أنني ما قدمت إليك مقدمي هذا لأعتذر عندك من ذنب أذنبته إليك، أو لأتوجع لك من كارثة نزلت بك؛ لأني أعلم أنك أجل وأرفع من أن تعتبر عبء الملك وهمه نعمة تأسف على فقدها، بل جئت لأباركك وأمسحك وأدعو لك الله أن يمدك بروح من عنده حتى يتم لنا على يدك النصر الذي نرجوه لأنفسنا، فيأمن البلقان أبد الدهر أن تخفق على ربوعه بعد اليوم راية غير راية المسيح، أو يرن في أجوائه صوت غير صوت الله.
ثم تقدم نحوه ووضع يده على رأسه يباركه ويصلي له، وبرانكومير يتميز غيظا وحنقا، ولكنه يتجلد ويستمسك، حتى فرغ الأسقف من شأنه، فلم ير بدا من أن يستقبل حفاوته بمثلها، فمد إليه يده وهنأه بالملك، واعتذر إليه من تقصيره في حضور حفلة التتويج، فقبل عذره، وقضى بقية يومه عنده هانئا مغتبطا لا يرى إلا أنه قد أرضاه، ومحا أثر ذلك العتب من نفسه.
ثم عاد بموكبه راضيا مسرورا، فشيعه القائد إلى ضاحية المدينة، ولبث واقفا مكانه ساعة ينظر إلى ذلك الموكب الفخم العظيم، ويسمع موسيقاه الشجية الجميلة حتى غاب عن بصره، فانقلب إلى قصره ثائرا مهتاجا يصيح ويجأر ويهذي هذيان المحمومين، حتى بلغ غرفته الخاصة، فوقف بجانب نافذة عالية مشرفة على الجماهير الغادية والرائحة في طرقها ومذاهبها، وأنشأ يحدث نفسه ويقول: تبا لك أيها الشعب الخائن الغادر ، لقد جازيتني شر الجزاء على عملي، وكفرت بنعمتي التي أسديتها إليك، ويدي التي اتخذتها عندك، أيام كنت أسهر لتنام، وأشقى لتسعد، وأقضي ليالي الطوال سجينا في قلعتي لا أبرحها ولا أنتقل منها لأدبر لك أمر الحماية التي تحميك، وتصون أرضك وديارك، وأنت لاه لاعب هانئ مغتبط، يمرح عامتك في منازههم ومسارحهم ليلهم ونهارهم، ويقيم خاصتك حفلات الرقص والغناء في قصورهم وأنديتهم، فكان جزائي عندك أن ضننت علي بالعرش الذي أنا عماده وملاكه، وحامل قوائمه وعمده، وآثرت به كاهنا مأفونا لا شأن له في حياته سوى أن يمسح رءوس الأطفال، ويهمهم حول أسرة الموتى، فبئس ما جررت على نفسك من الويل في فعلتك التي فعلت، وبئست الساعة التي رأيت فيها هذا الرأي الفائل الخطل، لقد فللت بيدك سيفك الذي كان يحميك ويصونك، وأطفأت جذوة الحماسة في صدر قائدك الذي كان يذود عنك وعن عرضك، ويحمي أرضك وديارك، فابتغ لك بعد اليوم قائدا يتولى حمايتك وصيانتك، أو فاطلب إلى أسقفك التقي الصالح الذي توجته بيدك، واخترته بنفسك لنفسك، أن يستنزل لك بدعواته النصر من آفاق السماء!
وإنه ليردد في موقفه أمثال هذه الكلمات، وينفث سموم الحقد والشر على العالم بأجمعه، إذ دخلت عليه الأميرة باسمة متطلقة تختال في حللها وحلاها، فأخذت بيده وقالت له: ارفق بنفسك يا برانكومير، واعلم أن نبوءة الكاهن لا تكذب ولا تخيب، وأبشرك أنك ستكون بعد شهر واحد ملكا على البلقان، ولا تسألني كيف يكون ذلك! فدهش لأمرها وحاول أن يسألها عن معنى كلمتها ومأتاها، فلم تمكنه من ذلك؛ لأنها تهافتت عليه واعتنقته ووضعت على فمه قبلة شهية أطفأت بها جذوة حدته وغضبه، ثم أفلتت من يده وعادت أدراجها.
المؤامرة
অজানা পৃষ্ঠা