الفصل الأول
ثورة باءت بالفشل
على بعد مسافة قصيرة من الجامعة الأمريكية بالقاهرة؛ بين شوارع منطقة وسط البلد المزدحمة، في العاصمة الأكبر في أفريقيا والأكثر ازدحاما في العالم العربي؛ يقع مقهى صغير متهالك يدعى الندوة الثقافية، كراسيه ومناضده الخشبية تطل على الشارع خارجه، ويرتاده المناضلون من المفكرين الليبراليين، وتتبارى فيه أصوات الزبائن الصاخبة مع أصوات أبواق السيارات، وتلتقي أثناء إدلائهم بالطلبات - التي يجلبها ندل يرتدون معاطف بيضاء - مع أصوات الباعة المتجولين المتكررة المجاورة صانعة مزيجا أوبراليا، يختلط فيه الدخان المتصاعد من نارجيلة المقهى بعوادم سيارات المرور التي توقف سيرها من فرط الزحام. إنها صورة مصغرة للقاهرة المعاصرة: زحام المرور، والتلوث الضوضائي، والحياة الاجتماعية الزاخرة بالأحداث لأناس أكثر ما يعشقونه هو الخوض في الأماكن العامة فيما عظم وصغر من الأمور، على الرغم من الاضطرابات المحيطة بهم (أو ربما بسببها). في تلك الآونة، في شتاء عام 2006، حقق فيلم بعنوان «عمارة يعقوبيان» نجاحا ساحقا في البلاد. قصدت آنذاك مقهى الندوة الثقافية؛ للقاء الكاتب علاء الأسواني، مؤلف الرواية التي ارتكز عليها الفيلم الأعلى تكلفة في تاريخ السينما المصرية، الذي شارك في بطولته الكثير من نجوم السينما في مصر، وحطم جميع الأرقام القياسية لإيرادات الأفلام المصرية في الأسابيع الأولى من عرضه. دارت أحداث الفيلم في مبنى من أبنية الماضي الشامخة في منطقة وسط البلد التاريخية بالقاهرة، أي قريبا من مقهى الندوة الثقافية، ومثلت شخصياته المتنوعة شرائح مختلفة من المجتمع المصري المعقد. والمبنى في حد ذاته شخصية رئيسية من شخصيات الفيلم؛ إنه مرآة بسيطة لمنتهى الازدهار الذي شهده المبنى في حقبة الثلاثينيات والأربعينيات الساحرة، الحقبة التي تعرف في مصر ب«الزمن الجميل»، ويرمز تهالك المبنى إلى تدهور مكانة مصر تدريجيا إبان الحكم العسكري الذي دام أكثر من خمسة عقود منذ انقلاب يوليو/تموز عام 1952، الذي أطاح بالنظام الملكي المؤزر من قبل بريطانيا، ليصعد بجمال عبد الناصر والضباط الأحرار إلى السلطة. صدر الفيلم ليعرض بقوة وعلى نحو فريد الواقع المرير الذي يواجهه المصريون يوميا، في بيئة ثقافية تكاد تكون قاحلة، تخلت فيها عن السينما المصرية عظمتها السابقة، وأضحت خاضعة لرقابة مكثفة، وباتت تنتج اليوم عددا لا حصر له من الأفلام الكوميدية الرخيصة. الانحلال الجنسي والفساد السياسي تفشيا في العالم الذي تتحرك فيه الشخصيات، وتنافس فيه القوادون والعاهرات وصغار المحتالين ومحترفوهم على غنائم الأمة المتهاوية التي باتت الآن تعيش كابوسا من جانبين: اتساع أملاك الطبقات العليا بلا حدود، واجتياح الإسلاميين للطبقات الدنيا. إنها صورة يزداد فيها الثري ثراء والفقير فقرا، أما الشرائح الوسطى فقد اندثرت واندثر معها كل أمل في التطور الاجتماعي القائم على التعليم الجيد والرغبة في العمل الجاد، في الوقت الذي استغل فيه الإسلاميون المتشددون الضعفاء والمعدمين الذين تخلى عنهم النظام الحاكم، ووقع المثقفون المتعلمون تحت أقدام عصابات شبيهة بالمافيا يشار إليها باسم «أغنياء الحرب»؛ وهو مصطلح يقابله في الإنجليزية مصطلح يعني «القطط السمان». إنه بلد يحلم شبابه جميعا تقريبا بالهروب منه، وأملهم الأخير للتمتع بمستقبل أفضل هو مفارقة الأحباب، والسفر بحثا عن العمل والكرامة. •••
يلتقي علاء الأسواني كل خميس في مقهى الندوة الثقافية بأصدقائه ومحبي رواياته، وبغيره من المفكرين؛ لمناقشة آخر التطورات السياسية والثقافية في مصر. كان الأسواني يملك قاعدة عريضة من المعجبين، فحتى قبل أن يصنع نجاح فيلم «عمارة يعقوبيان» الهائل اسمه بوصفه روائيا عالميا، حققت الرواية ذاتها أعلى المبيعات في مصر والعالم العربي منذ صدورها في عام 2002، بل وذهب البعض منذ وقت مبكر إلى تلقيبه بخليفة نجيب محفوظ، الروائي العظيم الحائز جائزة نوبل، الذي تحولت رواياته إلى أفلام شهيرة، وتوفي في أحد المستشفيات بالقاهرة في عام 2006 بعد صراع طويل مع المرض إثر محاولة اغتيال تركته عاجزا عن الكتابة، نفذها متطرف إسلامي في أوائل التسعينيات. يشير اسم الأسواني - وهو رجل في أواخر الأربعينيات له رقبة ملاكم وساعداه - إلى انحدار أصوله من قلب النوبة؛ من مدينة أسوان الساحرة بجنوب مصر. وتوحي شخصيته الودودة المتواضعة بأنه - مرة أخرى كنجيب محفوظ - لم يدع الشهرة التي اكتسبها في الآونة الأخيرة تصيبه بالغرور. لقد عاش في الولايات المتحدة وفرنسا، وصار يتقن الإنجليزية والإسبانية والفرنسية إلى جانب العربية؛ لغته الأم. أسس أولى عياداته بوصفه طبيب أسنان في المبنى الذي يشير إليه اسم القصة وتدور حوله أحداثها الخيالية، وكان شأنه شأن أغلب الرجال المصريين الذين التقيتهم يدخن السجائر باستمرار، وهو أمر مستغرب من طبيب أسنان. عندما قدمت له نفسي، لاحظ أنني أدخن سجائر كليوباترا المحلية فيما هو يمسك بعلبتي سجائر من ماركة أمريكية يفضلها، فأطلق مزحة عن التمازج بين الثقافات المختلفة - الفكرة الرئيسية التي تدور حولها أحدث رواياته؛ «شيكاجو» - لإذابة الجليد واستهلال الحديث.
في تلك الأمسية الباردة من شتاء عام 2006، اجتمع ما يقرب من خمسين شخصا في مقهى الندوة الثقافية، جلست في الصف الخلفي، أتابع ما يجري من حولي دون الانخراط فيه، وتناقل المجتمعون جهاز ميكروفون متصلا بمكبر صوت سمح لصوت كل شخص بأن يبز ضجيج المرور بالخارج. دار الجزء الأكبر من النقاش الذي افتتحه الأسواني حول أصداء تصريح أدلى به وزير الثقافة فاروق حسني مؤخرا، قال فيه إن ارتداء الحجاب - الذي انتشر في مصر منذ أوائل التسعينيات، ولا تعارضه إلا الأقلية القبطية المسيحية - هو دلالة على «الرجعية». لكن الهجوم المضاد لتصريح فاروق حسني كان قاسيا، بقدر ما كان محبطا؛ فقد جاء ليثبت فقط صدق إعلانه، وهو ما أدهشني. اتحد أعضاء من البرلمان المصري من حزب الرئيس مبارك الحاكم؛ الحزب الوطني الديمقراطي (العلماني ظاهريا) - الذي يسيطر على المجالس التشريعية المؤلفة بموجب انتخابات محددة النتائج سلفا - مع أعضاء برلمانيين من جماعة الإخوان المسلمين في الدعوة لاستقالة فاروق حسني، وشن كاتبو الأعمدة في الصحف القومية والمعارضة هجمات شرسة ضد الوزير تتعرض لشخصه، بل وأشار البعض بخبث (وبلا سبب واضح) إلى أن من لا يبدو أن النساء تهمه كثيرا يجب أن يكون آخر من يدلي برأي قوي فيما يرتدينه. ظاهريا قد يبدو هذا تحالفا غريبا بين الإسلاميين والعلمانيين، لا سيما بالأخذ في الاعتبار أن النظام يتهم دائما بحبس وتعذيب النشطاء المعارضين وملاحقتهم بلا هوادة، بالأخص من جماعة الإخوان المسلمين الأصولية، لكن إن أنعمنا النظر في الأمر، فسنجد أن ردة الفعل إزاء تصريحات فاروق حسني توضح بقوة أن النظام يسرق عباءة الإسلاميين لرفع شعبيته الآخذة في التدهور بين العامة. إنها ممارسة ليس من قبيل المصادفة أنها تساهم في تهميش أصوات التقدميين أكثر مع الترويج لخطورة الإسلاميين التي يحاول النظام أن يلفت الأنظار - قدر الإمكان - إلى جسامتها لتقليص حملات الضغط والنقد التي يتعرض لها من مموليه في واشنطن.
أيد الجميع تقريبا في صالون الأسواني غير الرسمي فاروق حسني، لم يؤيدوا بالضرورة آراءه عن الحجاب، لكنهم ارتأوا بلا شك أنه لا يستحق أن يهاجم، مما أظهر ميولهم الليبرالية وجهلهم بالرأي العام السائد؛ وعلى كل حال، إن كان المعارضون والحزب الحاكم يرون في تعليقات فاروق حسني فرصة سياسية، فهذا يدل على أنهم يجدونها قضية ذات صدى في الشارع المصري، ومن هنا يمكن استغلالها لتحقيق مكاسب سياسية. وكان أكثر ما عجز المجتمعون في الندوة عن تصوره هو كيف استطاع فرد - أيا كان موقعه في الحكومة المصرية - أن يثير مثل هذه الجلبة، في الوقت الذي فشلت فيه القصص عن استشراء الفقر والبطالة والفساد المستوطن وثقافة المحاباة الواسعة الانتشار - وهي الأفكار الرئيسية التي تدور حولها قصة الأسواني - في تحفيز الجماهير لاتخاذ ردة فعل تقترب من هذا الحد. ردة الفعل تلك أثبتت انعدام الحوار الثقافي في البلاد، وسيطرة الإسلاميين على العقل الجمعي المصري، لكنها أوضحت أيضا سذاجة مفهوم العدالة لدى الحاضرين بالصالون الثقافي؛ فالجلبة حول الحجاب صرفت انتباه الناس عن واقع محزن يعيشونه، لكنهم لا يستطيعون في الوقت نفسه معالجته. لا عجب في أن الكوميديا الرخيصة تسيطر سيطرة كبيرة عندما تتعذر معالجة القضية الملحة إلى درجة مقبضة للصدر. •••
قال لي الأسواني بعد أن انفض الحشد وجلسنا على طاولة خارج المقهى: «نشأت في منطقة وسط البلد بالقاهرة، أعتقد أن تلك المنطقة ليست جزءا من العاصمة بقدر ما هي حقبة تعود إلى أكثر من مائة وخمسين عاما قبل ثورة يوليو، عندما كانت مصر متسامحة إلى حد بعيد.»
تمثل الطرز المعمارية المختلفة التي انتشرت في القاهرة قبل ثورة يوليو تغير العصور والأذواق من منظور مجتمع الصفوة الليبرالي الذي انبثق منه الأسواني؛ إنها تعبر عن فترة تعود إلى أوائل القرن التاسع عشر، عاش وعمل فيها المسلمون، والمسيحيون، واليهود، والمصريون، والعثمانيون، والأرمن، والإيطاليون، والفرنسيون معا، وصارت المدينة بفضل مظهرها نموذجا للتعدد والاختلاف. تبرز رواية «عمارة يعقوبيان» هذا المجتمع الذي اتسع للجميع؛ إذ يتحول المبنى الذي سميت باسمه القصة، الكائن في القاهرة كما نراها في الواقع، والمصمم على طراز «الآرت ديكو»، إلى نصب تذكاري يذكر بالطراز الكلاسيكي الأوروبي الرفيع، وقد اكتمل مظهره ذاك بأعمدة وأحجار إغريقية الطابع.
احتك الأسواني بالمجتمع الغربي في سن صغيرة، وذكر أنه في جزء منه «ليبرالي بالدرجة الأولى»؛ فقد كان والده كاتبا وفنانا، لذا نشأ على حب قراءة الكتب وحرية الرأي؛ «فمن أراد أن يصلي، صلى، ومن أراد أن يشرب الخمر، شربه، ومن أراد أن يصوم، صام»، هكذا أخبر مجلة «إيجيبت توداي» المحلية التي تصدر باللغة الإنجليزية في مصر إبان حملته الدعائية لدى صدور روايته. وقد حرص على أن يبين لي أنه لا يشبه أيا من شخصيات قصته، فإحدى نقاط قوته ككاتب بالفعل هي قدرته - على طريقة الروائي الفرنسي مارسيل براوست - على تفهم آراء شخصياته المختلفة على الرغم من تعارضها. لكن مع تواصل حديثنا تبين أنه كبطل روايته الأرستقراطي المسن زكي باشا، يزدري الواقع الكئيب الذي تعيشه القاهرة المعاصرة ويشعر بالحنين إلى مصر ما قبل ثورة يوليو، مع التحفظ بشدة على الاستعمار البريطاني الذي ميز هذه الحقبة.
قال الأسواني وهو مستغرق في التأمل: «الاستعمار في الأحوال كافة شر، فإيجابياته - أيا كانت - ليست لمنفعة أهل الوطن، ولكن الحقيقة هي أنه قبل هذه الثورة، كان مفهومنا عن الدين متسما بالفعل بالتسامح، لهذا كان مجتمعنا متعدد الأعراق؛ عاش فيه أناس من كل ربوع الأرض.» هنا قاطعته مجموعة أخرى من المعجبين تطلب توقيعه على النسخة الإنجليزية والعربية من روايته.
অজানা পৃষ্ঠা