وكحال كل جماعات المعارضة الإسلامية، لا يسعى الإخوان المسلمون إلى الحكم، لأنهم ينجحون ويزدهرون في جانب المعارضة، حيث ينشغلون بموضوعات غير ذات جدوى تتعلق بالإسلام - بدءا من التصدي لمسابقات الجمال وحتى حظر الكتب التي ترمى بالكفر - في محاولة لأسلمة المجتمع من قاعدته. بعبارة أخرى، ينظر الإسلاميون إلى المدى البعيد، ولا يسعون إلى السلطة من أجل السلطة. ومن هنا كان استبعادهم الفوري للترشح في الانتخابات الرئاسية الهامة جدا. وبدلا من ذلك نراهم يريدون أسلمة المجتمع تدريجيا من قاعدته، معتقدين أنهم مؤيدون من قبل الله وتساندهم النزعات الاجتماعية المحافظة. وطوال عقود من الزمان كان البرلمان الهش ساحتهم المفضلة، والعمل الخيري بين الفقراء أداتهم الرئيسية لاستقطاب الآخرين. ومع تردي الوضع الاقتصادي المصري جراء الثورة، زادت الحاجة إلى أعمالهم الخيرية أكثر من ذي قبل، وصار البرلمان الجديد الأكثر تحررا أكثر إغراء لهم.
في حوار مع قناة «بي بي سي» في مارس/آذار 2011 قال عضو في جماعة الإخوان المسلمين المصرية ، «معتدل» على حد زعمه: «نريد حريتنا حتى نتمكن من تأسيس أحزاب سياسية في مجتمع مدني تعددي.» وواصل الشاب حليق اللحية حديثه قائلا: «لا يمكنكم إصدار حكم علينا ما لم تمنحوننا الفرصة. نحن الإسلاميون بحاجة إلى فرصة.» لكن الدرس المستفاد لمصر - ولهذا الإسلامي تحديدا إذا تأمل الواقع لحظة - من تجارب الدول الأخرى واضح وضوح النهار؛ لا يمكنك استيعاب الإسلاميين بالرغم من اعتدال بعض أتباعهم. أعطهم جزءا صغيرا من ساحة اللعب، وسوف يستأثرون بالساحة كلها لأنفسهم، ويغيرون قواعد اللعبة على نحو يضمن انتصارهم دائما. وفوق كل شيء لن تستطيع دحرهم في المنافسات طويلة المدى؛ فعندما يتعلق الأمر بالجلد والثبات تكون الغلبة من نصيبهم. وعلى كل حال فالتعريف الدقيق للاعتدال هو معرفة الوقت الذي يجدر بك التوقف فيه، وكل الإسلاميين يشتركون في أنهم لا يكلون لحظة. والتعرض للإسلام الراديكالي في الشرق الأوسط بالنقد صار مرادفا للدعوة إلى خفض السن القانونية لممارسة الجنس إلى ثماني سنوات في جلسة كاملة لمجلس الشيوخ الأمريكي؛ أي صار أمرا كارثيا. لا بد لكل الحجج أن تصاغ في حذر الآن باستخدام مصطلحات إسلامية، فضلا عن أن التأييد الذي حظيت به الحركات العلمانية في الماضي ذهب أدراج الرياح؛ بين العامة على الأقل.
طوال العقدين الماضيين، أرسى الإخوان المسلمون دعائم نجاحهم الوشيك. فقد أظهر استطلاع رأي أجراه «مركز بيو للأبحاث» قبل الثورة بوقت قصير أن غالبية المصريين يؤيدون رجم الزاني، وقطع يد السارق، وقتل المرتد عن الإسلام. والحقيقة التي لا سبيل إلى إنكارها مع الأسف هي أن المجتمع المصري - بعد عقود من حكم نظام مبارك الفاسد (الذي قوى شوكة الإسلاميين كوسيلة لتجنب غضب الشعب جراء تحالفه مع واشنطن) - صار محافظا ورجعيا للغاية، وأصبحت النخبة التقدمية بمعزل هائل عن الشعب، حتى إن شعار الإخوان المسلمين - الإسلام هو الحل - يطغى على الدعوات الأكثر تعقيدا وبراعة إلى الصبر والتسامح والاعتدال. والأسوأ من هذا دخول السلفيين المتطرفين الآن إلى الساحة السياسية، حيث استغل السلفيون الأكثر تطرفا الفوضى التي أعقبت سقوط مبارك لمهاجمة الصوفيين والمسيحيين. يرى هؤلاء المتشددون أن المزيد من الديمقراطية لا يعني مزيدا من التعددية حتى مع تأسيسهم أحزابا سياسية مؤخرا بهدف تدعيم العملية الديمقراطية. والآن يتحول السيناريو المفجع الذي تصورته لمصر في هذا الكتاب - عندما كانت على أعتاب تغيير ثوري هو اعتلاء الإسلاميين السلطة - إلى واقع أسرع كثيرا حتى مما توقعت.
في بداية أغسطس/آب 2011 - بعد اندلاع الثورة بستة أشهر - شهدت مصر ما يمكن وصفه بأنه «اللحظة الإيرانية» في البلاد. نزل ما يقرب من مليون سلفي وإسلامي متشدد إلى ميدان التحرير، وشقوا صفوف المعارضة الليبرالية والعلمانية التي كانت قد وافقت على الانضمام إلى المظاهرة من باب التدليل على وحدة الصف. وما حدث أن الإسلاميين دعوا إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، وإزاحة الأفكار العلمانية جانبا. ردد الإسلاميون شعارات إسلامية، وارتدوا الزي السلفي، بل ولوحوا بالأعلام السعودية في دلالة أكيدة على الرغبة في العودة بالمجتمع إلى العصور الوسطى.
بعدئذ تحرك الجيش لإخلاء ميدان التحرير من بضعة مئات من المتظاهرين الليبراليين، وأعلن عن مثول مبارك أمام المحكمة. لا شك أن قرار محاكمة مبارك - بعد شهور من التباطؤ - كان انتصارا لليبراليين الذين استبسلوا في مواصلة الضغط على المجلس العسكري من أجل محاكمة الديكتاتور. لكن الخطر يكمن في أن محاكمة مبارك (الجارية وقت كتابة هذه السطور) ستثبت أنه انتصار باهظ التكاليف. فقد سحب البساط من تحت أقدام الحركات الثورية الليبرالية مثلما استغلت حالة الزخم القائمة من قبل الإسلاميين الذين يشاع أنهم أبرموا اتفاقا مع الحكام العسكريين الجدد: دعونا نؤسلم المجتمع من قاعدته ونشارك بحرية في الانتخابات، وسوف نساعدكم في الحفاظ على الوضع الراهن. نفى الجيش نفيا قاطعا وجود مثل هذا الاتفاق، لكن الحقيقة واحدة سواء أكان الاتفاق قد أبرم رسميا أم لا. وسط الفوضى والخراب اللذين تشهدهما مصر بعد الثورة والتنفيس عن المشاعر برؤية مبارك ماثلا أمام المحاكمة تجلت حقيقة جديدة؛ من المرجح كثيرا أن تصبح مصر - عاجلا أكثر منه آجلا - دولة إسلامية أكثر من احتمال كونها دولة ديمقراطية تسير على منوال الغرب.
أوضح مقال نشر في مجلة «فورين أفيرز» الأمريكية ذات الثقل في فبراير/شباط 2011 كيف برع الإسلاميون في الترويج لأنفسهم في الخارج مستغلين بمهارة ولع واشنطن بألعاب الشطرنج الجغرافية السياسية. كتب شادي حامد من معهد «بروكينجز» البراجماتي: «لا جدال في أن الديمقراطية ستجعل المنطقة أكثر تقلبا وبعض الحكومات فيها أقل إذعانا لمصالح الأمن الأمريكية.» لكن لا داعي للقلق؛ فالإسلاميون «الممثلون للاتجاه السائد» مثل الإخوان المسلمين في مصر «لديهم نزعات براجماتية قوية»، وأظهروا أنهم «مستعدون للمساومة على أيديولوجيتهم» عندما يواجهون خيارات صعبة:
لتوجيه الشرق الأوسط الذي يمر بمرحلة تطور سريع مؤخرا في اتجاه مناسب، على الولايات المتحدة استغلال تلك النزعات عن طريق الدخول في حوار استراتيجي مع الأحزاب والجماعات الإسلامية في المنطقة. فالمشاركة ستمكن الولايات المتحدة من حث الإسلاميين على احترام المصالح الرئيسية للغرب بما في ذلك دفع عملية السلام العربي-الإسرائيلي قدما، ومجابهة إيران، ومحاربة الإرهاب. سيكون من الأفضل دعم تلك الروابط مع جماعات المعارضة الآن - في وقت لا تزال الولايات المتحدة تتمتع بالنفوذ - أكثر مما سيكون عليه الوضع لاحقا بعد وصولهم إلى السلطة: (شادي حامد: «كيف سيغير الإسلاميون العملية السياسية والعكس» مجلة «فورين أفيرز» مايو/أيار- يونيو/حزيران 2011.
http://www.foreignaffairs.com/articles/67696/shadi-hamid/the-rise-of- the-islamist ).
بعبارة أخرى الإسلاميون في طريقهم إلى الحكم - شئنا أم أبينا - لذا فمن الأفضل تقديم الدعم للطرف الرابح. لكن ماذا عن نساء المنطقة ومسيحييها وشيعتها ومفكريها من أنصار الفكر الحر الآخذ عددهم في التضاؤل طوال الوقت و«شعوبها» الإسلامية المعتدلة - على حد تعبير أوباما - الذين لا يريدون العيش في دولة دينية وهابية رجعية؟ ليذهبوا إلى الجحيم على ما يبدو؛ فالأولوية للمصالح الأمريكية والإسرائيلية، ولا بد من تحقيقها ولو بإبرام اتفاق مع الشيطان. وبالرغم من أن هذا المنطق يتنافى مع الأخلاق فإن دوافعه مفهومة - من المنظور البراجماتي المحض الذي تتبناه واشنطن - إذا كان يخدم المصالح الأمريكية حقا.
غير أن مشكلة الحجج البراجماتية أن التاريخ اعتاد تفنيدها. ساند البراجماتيون الأمريكيون الأنظمة الفاسدة في جنوب فيتنام واحدا تلو الآخر، لكنهم خسروا الحرب مع ذلك، وسلموا المنطقة إلى الصين على طبق من فضة . وساند البراجماتيون شاه إيران واكتسحت الثورة لتمكن آية الله الخميني، وقد شهد التاريخ لتوه تكرارا لهذا السيناريو في مصر. في الثمانينيات من القرن العشرين، سلح البراجماتيون أسامة بن لادن. وثمة أمر واحد واضح: وهو أن واشنطن ستواصل تفضيل مصالحها ومصالح تل أبيب على مصالح الشعب المصري. والنتيجة ستكون كارثة أخرى في السياسة الخارجية. وعندما تندلع الثورة المصرية القادمة - وهو أمر مؤكد - سيقف الإسلاميون المتشددون في الصفوف الأمامية منذ اللحظة الأولى.
অজানা পৃষ্ঠা