وقد يكون الأمر بحاجة إلى مزيد من الشرح، لنتبين في وضوح ماذا نعني بالنمط الثقافي الكامل، الذي يحتم أن أكون - أنا المصري - جزءا لا يتجزأ من الوطن العربي، فأقول:
العروبة نمط ثقافي، من عاش حياته منخرطا فيه كان عربيا، بغض النظر عن عرقه، ومن أهم المقومات التي يتألف منها ذلك النمط الثقافي، اللغة والدين وفلسفة القيم الأخلاقية والجمالية، والأعراف والتقاليد، والدعائم الأساسية التي يقام عليها النظام الاجتماعي من الأسرة وما يضبط العلاقات بين أفرادها من قواعد، إلى المجتمع القومي من حيث هو بناء موحد، تسري في أنحائه ضروب من الروابط بين الأفراد، وهنالك في التاريخ العربي رجال، لم يكن انتماؤهم العرقي عربيا، إذا جعلنا العروبة مقيدة بحدود جغرافية معينة، هي شبه الجزيرة العربية، لكن أحدا منا لا يتردد في ضمهم إلى «العروبة» من زاوية الإطار الثقافي الذي قضوا فيه حياتهم ونشاطهم وفكرهم وعقائدهم، وإلا فمن الذي يريد منا أن يخرج من العروبة رجالا من أمثال البخاري والترمذي، وابن سينا، والغزالي، لكونهم ينتمون إلى فارس من الناحية العرقية؟ وليست العروبة بدعا وحدها في كونها قائمة على نمط ثقافي معين لا على انتماء عرقي، فها هي ذي الولايات المتحدة الأمريكية - مثلا - قد ضمت كل أجناس الأرض من ناحية العروق، لكنها قومية واحدة برغم ذلك التنوع، بسبب الوحدة الثقافية التي يحيون في إطارها، أو هم يحاولون جهدهم أن يحيوا في إطارها، لتتحقق لهم الروح القومية في أقوى صورها.
العروبة - إذن - نمط ثقافي، تجيء اللغة في مقدمة عناصره، ونحن إذا قلنا إن العرب يتكلمون اللغة العربية، فلسنا نعني أن اللغة العربية من حيث هي طريقة خاصة للتفكير واستثارة المشاعر، وقد يوجد من يدرس اللغة العربية من غير أبنائها، دراسة تجعله ملما بمعاني مفرداتها وطرائق تركيبها - كالمستشرق مثلا - فلا نعده منخرطا في «العروبة»؛ لأن اللغة في هذه الحالة قد درست من الظاهر، كما تدرس الرموز الرياضية في معادلات الجبر والحساب، لكنها تنغرس في دارسها على نحو يجعلها مدار فكره وشعوره.
قارن اللغة العربية باللغة الإنجليزية - مثلا - تجد بينهما ضروبا من الاختلاف يستحيل ألا تكون انعكاسا لاختلاف أبناء هذه عن أبناء تلك في طريقة التفكير ووجهات النظر واتجاهات الوجدان، خذ بعض الأمثلة، لماذا تقسم مفردات اللغة العربية أسرا أسرا، كل أسرة منها ترتد إلى «الثلاثي» الذي انبثقت منه (وهنالك قلة من أصول رباعية) بحيث يكفي العربي أن يلم بالثلاثي - مثل «ضرب» أو «كتب» - وأن يلم بطريقة استخراج الفروع التي تنبثق من ذلك الينبوع، ليكون على علم باستخراج المشتقات التي يريدها في المناسبات المختلفة، فما دام يحمل في جعبته الفعل «كتب»، أصبح يسيرا عليه أن يستخرج منه أفراد الأسرة جميعا كاتب، مكتوب ، كتابة، كتاب ... إلخ، وما كذلك اللغة الإنجليزية، فالإنجليزي إذا عرف الفعل الدال على «كتب» لم يستطع استخراج الاسم «كتاب» لأن هذا الاسم في لغته قائم بنفسه، وليس مشتقا من فعل «كتب»، ولذلك كان عليه أن يحفظه كما ورد، فهل من شك في أن تجميع المفردات اللغوية تحت رءوسها الثلاثية، انعكاس للروابط الأسرية أو القبلية، أو العشائرية في نظامنا الاجتماعي؟ فالمتكلم باللغة العربية من أبنائها يعيش لغته في نظامه الأسري، ويعيش نظامه الأسري في لغته، فإذا وجدت جماعة من الناس، اختلفت عروقها، لكنها التقت في لغة كهذه بكل دلالاتها، كانت تلك الجماعة منتسبة إلى قومية واحدة.
ولماذا اكتفت اللغة الإنجليزية في التقسيم الكمي بأن جعلت الأسماء إما «مفردا» وإما «جمعا» في حين جعلته اللغة العربية تقسيما ثلاثيا: المفرد، والمثنى، والجمع، لماذا أفرد العربي للمثنى خانة، ودمجه الإنجليزي في خانة الجمع؟ فالكتابان عند العربي «مثنى» وعند الإنجليزي «جمع»؟ هل يمكن لاختلاف كهذا ألا يعكس اختلافا بين الجماعتين في رؤية الأشياء؟ فبينما العربي يساير تقسيمه الثلاثي والأبعاد الثلاثية الكائنة في المجسمات كلها، وهي: الخط، والسطح، والكتلة، أو قل الطول، والعرض، والارتفاع، فاحتفظ بهذه الحقيقة الثلاثية، ليظهرها في لغته تفرقة بين ما هو مفرد، وما هو مثنى، وما هو جمع. والتقابل بين الأشياء وأبعادها، واللغة وأقسامها، تقابل له ما يبرره؛ لأن السطح ما هو إلا خطوط تجاورت، والحجم ما هو إلا سطوح تتابعت، أقول إنه بينما للعربي هذه الرؤية، فللإنجليزي رؤية أخرى.
ولماذا حرصت اللغة العربية على التفرقة الكاملة بين المذكر والمؤنث في كل لفتة من لفتاتها، على حين اكتفت اللغة الإنجليزية في تلك التفرقة بمواضع دون أخرى، ففي العربية إذا خاطبت رجلا بقولك «أنت» فتحت التاء، وإذا خاطبت امرأة كسرت التاء، أما في الإنجليزية فضمير المخاطب مشترك ومعظم الأسماء في اللغة الإنجليزية لا تفرقة فيها بين رجل وامرأة، فقولك «مدرس» و«كاتب» و«ممرض» وآلاف أخرى من هذا القبيل، وتنصرف إلى الرجل والمرأة على حد سواء، فإذا كنت تقرأ صحيفة أو كتابا، ووجدت جملة إنجليزية معناها «قال الطفل إن المدرس أعطاه كتابا»، لما عرفت أهو طفل أو طفلة، ولا عرفت أهو مدرس أو مدرسة، لأن الأسماء وحدها في اللغة الإنجليزية لا تفرق، لكننا نعرف أن اللغة العربية تتعقب تلك التفرقة بين المذكر والمؤنث في جميع أوضاعها، وفي المفرد والمثنى والجمع، فلكل من القسمين طريقته الخاصة التي تذكره بها اللغة العربية، فهل يمكن ألا يكون هذا صدى للتفرقة الحادة في حياة العربي بين الذكر والأنثى؟ وهكذا، وهكذا، تستطيع أن تجد عشرات الجوانب الرئيسية في البناء اللغوي، الدالة على حقائق معاشة في حياة الإنسان العملية أو الفكرية، مما يبرر لنا القول بأن جماعة الناس الذين يتكلمون اللغة العربية، هي جماعة تحيا بدماء ثقافية واحدة، ولها رؤية مشتركة ترى بها العالم وما فيه، ويترتب على هذه المشاركة أن تكون تلك الجماعة مكونة لقومية واحدة.
وما قلناه عن اللغة ودلالاتها، نقول مثله عن موقف الناس من فلسفة القيم أخلاقية وجمالية واجتماعية، فإذا وجدنا جماعة تتميز دون سائر الجماعات بوقفة خاصة بها في وجهة نظرها بالنسبة إلى مبعث القيم، كان لنا ما يبرر اعتبار تلك الجماعة مندرجة في نموذج بشري واحد، ولنحصر حديثنا الآن في القيم الأخلاقية من وجهة النظر العربية، فلا بد لنا بادئ ذي بدء من لفت الأنظار إلى حقيقة هامة، وهي أن الفوارق بين شعب وشعب في هذا المجال، ليس هو أن شعبا يجعل فعلا ما فضيلة من الفضائل، في حين يجعله الشعب الآخر رذيلة، كلا، فالإنسانية كلها تكاد تتفق على الرءوس الكبرى لما هو فضيلة وما هو رذيلة، ولعل «الوصايا العشر» هي خير ما يلخص لنا أهم ما يلتقي عنده شعوب الأرض جميعا، فيما يجب على الإنسان فعله أو عدم فعله في حياته الخلقية، فليس بين شعوب الأرض شعب يجيز القتل بغير ذنب، ويجيز السرقة، ويجيز الكذب والغدر والخيانة وعدم الوفاء بالعهد ... كل شعوب الأرض متفقة في هذا المجال، ولا يمنع هذا الاتفاق بينها أن يزل الأفراد هنا أو هناك فيخطئوا.
أقول إن موضع الاختلاف الأساسي بين الشعوب في المسألة الخلقية، ليس هو في يقين الفضائل الواجبة، والرذائل المنهي عنها، بل موضع الاختلاف بينها هو في «تعليل » ذلك الوجوب أو هذا النهي، نعم كلنا متفقون على ضرورة الوفاء بالعهد، ولكن لماذا كان الوفاء بالعهد واجبا خلقيا مفروضا على الإنسان؟ هنا نجد الإجابات عن هذا السؤال تختلف باختلاف الثقافات التي تتميز بها الشعوب بعضها عن بعض، والذي يبرز ضروب الاختلاف هذه، هم فلاسفة الأخلاق، فهؤلاء هم الذين يتعقبون الثقافات المختلفة إلى جذورها الأولى. فقد نجد بعد البحث أن الشعب الإنجليزي يرى أن الوفاء بالعهد فضيلة؛ لأن خبرة الإنسان الطويلة بالحياة قد دلت على أن وفاء الناس بعهودهم أضمن لقيام المجتمع وعلاقات أفراده بعضهم مع بعض على أساس مكين ثابت، لكنك إذا أجريت مثل هذا البحث على جماعة العرب، لترى وجهة نظرها في تعليل هذا الوجوب نفسه الذي يقضي على الناس بالوفاء بعهودهم، فربما وجدت أن التعليل عندها هو أن ذلك من فروض الدين، وهكذا ترى تعديلات مختلفة عند الشعوب المختلفة للظاهرة الخلقية الواحدة، ولست أريد أن أترك الحديث في هذه النقطة قبل أن أعيد التوكيد بأن اختلاف الشعوب في المسائل الأخلاقية، ليس هو أن هنالك شعوبا متمسكة بالأخلاق، وشعوبا أخرى متهاونة فيها، بل الاختلاف - كما قلت - هو في التعليل، وهو اختلاف قلما يطرأ للإنسان العادي في حياته اليومية، لكنه يظهر على يدي من دأبه تعقب الحقائق إلى أصولها الأولى.
فكما وجدنا المشاركة في لغة عربية واحدة، تتضمن أن يكون المشاركون ذوي رؤية واحدة في موقفهم من العالم ومن الحياة، مما يبرر أن يعدوا أمة واحدة، فكذلك نقول إن المشاركة في تعليل واحد للظاهرة الخلقية، مبرر آخر لاعتبار المشتركين أعضاء في جماعة واحدة، فإذا اجتمع المبرر الأول والمبرر الثاني معا في جماعة بعينها، ازدادت الفكرة قوة، بأن تلك الجماعة منتمية إلى قومية واحدة.
وليست اللغة العربية، ووجهة النظر الأخلاقية، هما وحدهما ما يربط أبناء الأمة العربية في حقيقة واحدة، بل تضاف إليهما عوامل أخرى كثيرة، منها طريقتهم في قياس درجات الكمال للأشياء، فما الذي يجعل حيوانا أكمل من حيوان، وشجرة أكمل من شجرة، وإنسانا أكمل من إنسان؟ إذا بحثنا عن الجواب عند الفكر العربي، وجدنا هناك مقابلة بين «الفكرة» و«الشيء» بمعنى أن الذهن البشري يتصور صورة معينة، أو تعريفا معينا، للشيء، ثم تقاس مفردات الكائنات من حيث درجات كمالها، إلى تلك التعريفات العقلية لها، ليحكم على درجة كمالها بدرجة اقترابها من النموذج النظري، تلك هي خلاصة الوقفة الأوروبية، أو قل الوقفة في الغرب، وأما في الأمية العربية، فالوقفة مختلفة؛ لأن العربي - أيا كان موقعه من الوطن العربي الكبير - لا يقيس الشيء المراد الحكم عليه إلى «فكرة» عقلية، بل يقيسه إلى شيء آخر من جنسه، فالجواد يقاس إلى جواد أمثل، وقصيدة الشعر تقاس إلى قصيدة أخرى، الإنسان إلى إنسان آخر اتفق الرأي على كماله، وهكذا.
অজানা পৃষ্ঠা