الحديث عن الرجل والمرأة وهما يتعاونان مرة ويتصارعان أخرى، يتفقان يوما ويختلفان يوما، لم ينقطع منذ هبط آدم وحواء إلى هذه الأرض ليسعيا، ولا بأس في كل ما قيل عنهما وما يقال، لا بأس في أن يفاخر الرجل بدوره وتفاخر المرأة بدورها، طالما جاء هذا كله على سبيل المزاح، أما أن ينقلب المزاح إلى جد الحياة بحيث يصبح الرجل آمرا والمرأة طائعة، ويجعل الرجل من نفسه سيدا وتجعل المرأة من نفسها تابعة، فذلك هو «الوأد» بعينه، لولا أن الموءودة هنا ليست واحدة، بل هي الجنس بجميع أفراده، وإذا كان عجبا أن يدعي الرجل لنفسه ما يدعيه، فأعجب منه أن تستجيب المرأة بقولها آمين! وهذا هو ما نرى المرأة اليوم في سبيلها إليه، بعد كل ما صنعته أخوات لها من بنات الجيل الماضي لترفع عنها نير الهوان.
المرأة اليوم تتبرع سلفا بحجاب نفسها، قبل أن يأمرها بالحجاب والد أو زوج، فكأنها بذلك الحجاب الطوعي تقف على مئذنة لتصيح في الناس: ها هي ذي سلعة من عهود الحريم لمن يشتري! وهل هي تدري - يا ترى - بأية سرعة سريعة يتحول حجاب الوجه ليصبح حجابا للفكر كذلك؟ إنها إذا لم تكن تعلم ذلك، فهي إذن لا تعلم شيئا عن تأثير الظاهر في الباطن، فالأمر في هذا الصدد لا يقتصر على أن يستتبع حجاب الوجه حجابا للروح، كما يستتبع سفور الوجه سفورا للروح، بل يجاوز ذلك إلى كل ظاهر وباطن، فالحركات الجسدية الظاهرة في الصلاة ركوعا وسجودا، سرعان ما تشيع في قلب العابد ضراعة وخشوعا، ولعل هذا بعض ما تعنيه الآية الكريمة من أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، فهي - بداهة - لا تفعل ذلك لمجرد حركات الجسد الظاهرة، بل نتيجة لما يتولد عن تلك الحركات الظاهرة من شعور قلبي باطني فيه خشوع العابدين.
ولتغفر لي مواطناتي اللائي أخذتهن ردة إلى عهود الحريم، وامتلأت نفوسهن بوساوس الشك في صلاحية المرأة لمشاركة الرجل مشاركة الأنداد في كل شيء: في العلم والعمل، في الفكر والفن والأدب، في السياسة والحكم، في التجارة والصناعة، في المغامرة والكفاح، نعم، لتغفر لي أولئك المواطنات - وهنالك منهن اليوم عشرات الألوف - إذا قلت إنني كلما رأيت منهن واحدة انزلقت بضعفها - تطوعا - إلى هوة الماضي، تذكرت ما كتبه شوبنهاور عن المرأة، سائلا نفسي: أيكون ذلك الفيلسوف الألماني قد أصاب الرأي فيما وصف به المرأة؟ وسأعرض الآن مقتبسات مما كتبه في ذلك، راجيا من كل قارئة أن تتلمس في نفسها رد الفعل، فإن وجدت نفسها غاضبة مما يدعيه شوبنهاور عنها وعن بنات جنسها، كان الأمل كبيرا في أن تنفض عن عقلها ما غشاه لتعود إلى استئناف طريقها إلى الحرية التي كانت سالفتها قد رفعت لها لواءها.
يبدأ شوبنهاور ما كتبه عن المرأة بقوله (ولنتذكر أن موقفه من المرأة كان رد فعل للخصومة الغريبة التي نشأت بينه وبين أمه، فقد كانت أمه أديبة ذائعة الصيت، ولعلها أحست شيئا من الغيرة حين وجدت نجم ابنها يزداد سطوعا كل يوم، فنشب بينهما خلاف ذات يوم، أدى بالألم إلى أن تطرد الابن من دارها، فخرج الابن وهو يقول لها: إن التاريخ لن يذكرك إلا من حيث كنت لي أما) وهاك بعض ما كتبه عن المرأة:
إن المرأة بحكم تكوينها لا تستطيع أن تضطلع بالمنجزات الكبرى، الجسمي منها والعقلي على حد سواء، فرسالتها في الحياة منحصرة في الإنسال ورعاية الأطفال، مع وجوب طاعتها للرجل وخضوعها له، فلقد أرغمتها طبيعتها على أن تسلك في حياتها سبيلا مطمئنة وادعة، لا تصادف فيها ما يصادفه الرجل في حياته من التطرف في اللذة وفي الألم كليهما، وإذا كانت الحياة قد ركنت إلى المرأة في أن تكون أداة تتعهد الصغار في طفولتهم الباكرة، فمعنى ذلك أنها قد أعدتها إعدادا عقليا يلائم الغرض من وجودها، فجاءت ضعيفة العقل، قصيرة النظر، حتى لكأنها طفل كبير لكي يتم بينها وبين أطفالها شيء من التناسق، أو إن شئت فقل إنها مرحلة عقلية بين الطفولة والرجولة؛ فالرجل هو الكائن البشري الحق، الذي قصدت إليه الحياة.
ومعلوم أنه كلما ارتفع الكائن الحي في درجات الكمال، كان أبطأ وصولا إلى مرحلة النضج، فبينما المرأة يكتمل نضجها في الثامنة عشرة ترى الرجل لا يتم له النضج إلا في الثامنة والعشرين، على أن نضج المرأة بعد أن يكتمل، لا يجعلها تحقق من القدرة العقلية إلا قدرا محدودا، لا يمكنها من أن تنفذ إلى حقائق الأشياء؛ ولذلك كان من السهل انخداعها بالظواهر، وتراها منشغلة بتوافه الأمور، دون الهام منها والخطير، وكذلك تتميز المرأة بأنها تعيش في حاضرها فقط؛ لأنها تعجز عن الامتداد بفكرها إلى الماضي وإلى المستقبل، فبالقوة العقلية وحدها يستطيع الرجل أن يحطم حدود الزمن التي تقيد المرأة كما تقيد الحيوان.
ولعل هذه الخاصة في الرجل، وأعني قدرته على مجاوزة اللحظة الحاضرة إلى الماضي وإلى المستقبل، حتى يضم الزمان من الأزل إلى الأبد بنظرة واحدة، هي التي كثيرا ما تصيبه بانقباضة المهموم، وهي انقباضة لا تعرفها المرأة وهي تنعم بلحظتها الحاضرة، غير حافلة بما قد يأتي به غد من ويلات وكروب، والمرأة في ذلك تشبه الحيوان الأجهر (ضعيف البصر) الذي يرى ما هو قريب منه في دقة ووضوح، ولكن بصره لا يمتد إلى بعيد، أي إن المرأة قد تستطيع أن ترى الحوادث الجارية حولها أدق مما يراها الرجل، لكنها عاجزة كل العجز عن اجتياز الحاضر إلى وراء وإلى أمام، ولعل في ذلك يكمن السر في إسرافها الذي قد يبلغ بها حد الحماقة والسفه.
كان هذا بعض ما أفاض القول فيه الفيلسوف الألماني في أواسط القرن الماضي، ولو كانت المرأة على حقيقتها - وحقيقتها هي أنها «إنسان»- تتمثل في المرأة المصرية التي أصابتها في أيامنا هذا نكسة ارتدت بها إلى ما قبل وثبتها التي شهدناها في امرأة الجيل الماضي، لاستحقت ما قاله عنها ذلك الفيلسوف، فالذي نلاحظه في هذه المرأة المرتدة هو أنها قد تتعلم، لكنها تتعلم غير مؤمنة بما تتعلمه، وقد تشارك في ميادين العمل، لكنها غير مؤمنة بجدوى العمل . فهي آخذة في الضمور العقلي والوجداني إلى مصير لا يعلمه إلا رب العالمين.
ثم تكتمل فصول المأساة، حين نرى الرجال يصفقون لها إعجابا بضمورها وذبولها وعودتها إلى حياة الحريم، فإذا أراد الله بإحداهن خيرا، وجعلها تصمد على الكرامة، وعلى حقها في الطموح من أجل نفسها ووطنها، ضاقت صدور الرجال وبكوا على خراب البيوت وضياع الأطفال، فلقد جاءتني رسالة من قارئ يعاتبني على ما قلته في حوار إذاعي سمعه، وهو أن للمرأة حقا مساويا لحق الرجل في التعليم وفي العمل، فأخذ القارئ الكريم علي هذا الرأي، محتجا بما قد يصيب الزوج والأطفال من إهمال، ولكني لم أقل - ولن أقول أبدا - إن هذه المشكلات الأسرية تترك بغير حل، بل لا بد من حلها بمشاركة المرأة نفسها في ذلك الحل، على أن تجيء الحلول في إطار حق المرأة في العلم والعمل وسائر ما نطالب به ل «الإنسان» من حقوق، على أن أبشع جوانب الردة في حياة المرأة المصرية اليوم، ليس هو أنها تريد أن تتعلم إلى آخر المدى، فيمنعها أحد، لأن أحدا لا يمنعها من ذلك، وليس هو أنها تريد أن تعمل بما تعلمته فيمنعها أحد؛ لأن أحدا لا يقفل في وجهها أبواب العمل، وإنما الجانب البشع من تلك الردة، هو أن المرأة اليوم تريد أن تجعل من نفسها وبمحض اختيارها، حريما يتحجب وراء الجدران، أو يتستر وراء حجب وبراقع، وكأنها الفريسة السهلة تخشى أن تتخطفها الصقور، أما أن تحصن نفسها بقوة الروح، وبالشعور بكرامتها إنسانة مستنيرة واعية، فذلك زمن أوشك على الذهاب مع ذهاب رائدات الجيل الماضي.
ألا ما أبعد الفرق في حياة المرأة المصرية بين الليلة والبارحة، ففي بارحتها ألقت بحجابها في مياه البحر عند شواطئ الإسكندرية، إيذانا بدخولها عصر النور، وأما في ليلتها هذه فباختيارها تطلب من شياطين الظلام أن ينسجوا لها حجابا يرد عنها ضوء النهار.
অজানা পৃষ্ঠা