حزن النبي لما سمع منهم وأيقن أنه ملاق من سائر ثقيف مثل ردهم، لقد كان يطمع في معونتهم لحكمتهم وسيادتهم ونزول قومهم على حكمهم؛ أما وذلك جوابهم فلا خير في التحدث إلى غيرهم، لكن قريشا بمكة لن يفوتها أن تسمع بما أصابه إذا تناقل أهل الطائف روايته، فيزداد محمد والمسلمون هوانا عليها، وتزداد إيذاء لهم وقسوة بهم؛ لذلك ألح محمد على محدثيه الثلاثة أن يكتموا ما دار بينه وبينهم حتى لا تصيبه قريش بأذى، أما عبد ياليل وأخواه فخافوا مغبة الكتمان وما يمكن أن تئول به زيارة محمد إياهم، فلم يسمعوا له، بل أغروا به سفهاءهم حين خرج من عندهم، وتعقبه السفهاء يقذفونه بالحجارة، فالتجأ منهم إلى حائط لشيبة وعتبة ابني ربيعة وجلس إلى ظل شجرة فيه، ورفع طرفه إلى السماء يشكو إلى ربه سوء ما حل به، ورآه ابنا ربيعة ورأيا ضراعته وما هو فيه من سوء حال، وبعثا مع غلامهما عداس النصراني بقطف من عنب يروي به ظمأه ويرفه به عن نفسه، ومد النبي يده إلى العنب، وقال: باسم الله، ثم أكل، ودهش عداس لما رأى وسأل محمدا عن شأنه، فلما علم أنه نبي أقبل عليه يقبل رأسه ويديه، وحذر صاحبا الكرم غلامهما من أن يؤمن به، فنصرانية عداس خير عندهما من هذا الذي يدعو محمد إليه، وانصرف محمد عن الطائف كسير الخاطر، وعاد يصعد في الجبال وينحدر في السهول ثم يصعد ثم ينحدر حتى بلغ مكة، فإذا الأنباء سبقته إليها، وإذا قريش تستقبله بالسخرية وتناله وأصحابه من الأذى بأكثر مما نالته ونالتهم به من قبل.
لو أن محمدا كان رجلا كالرجال لفت ما صنع أهل الطائف في عضده، ولآثر السلامة بين قومه، فعاد إليهم وانضوى تحت لوائهم، لكنه أقام يدعو إلى هذا الحق الذي لم تأبه له ثقيف، قوية بالحق نفسه، عامرا بالله قلبه، حتى نصر الله هذا الحق بعد حين، فعاد محمد بعد عشر سنوات أخرى إلى الطائف قويا بلواء هذا الحق الذي أظل بلاد العرب كلها، فتحصن أهلها منه ولم يذعنوا لدعوته كرة أخرى، لكنهم ما لبثوا، حين رأوا أن لا ملجأ من الحق إلا إليه، أن بعثوا إلى محمد من تلقاء أنفسهم يلتمسون الانضواء إلى دينه والأخذ بناصره، أوليس عجيبا أن يأبى الناس الحق إذا دعوا إليه بالحسنى وأن يحاربوا الرسول الذي يدعوهم إليه، فإذا تولى عنهم ورأوا أن لا قبل لهم باعتزال الحق بعد أن آمن الناس به أقبلوا طائعين يلتمسون رضوان من سخروا منه من قبل وأغروا به سفهاءهم، ثم حاربوه ومنعوا منه وطنهم؟! فلقد تحصنت الطائف من المسلمين بعد انتصارهم في حنين فلم يستطيعوا فتحها وانصرفوا عنها، ثم بعثت هذه الطائف سادات ثقيف يعلنون إلى محمد إسلامهم ويكلون إليه أن يبعث معهم من يفقههم في الدين ويرشدهم إلى عظمة الحق فيه، هذه آية خالدة على الزمن تشهد بأن للحق لا محالة النصر آخر الأمر ما استمسك به صاحبه عن إيمان ويقين، وبأن النفس الإنسانية تهفو إلى الحق ما اطمأنت إلى اقتناع الداعي إليه وإلى إيمانه به.
خرجت مع أصحابي أزور هذه الطائف ذات التاريخ المجيد، وصحبنا في زيارتنا رجل من أهل الطائف هو الشريف حمزة الغالبي، ولقد أقبل هذا الرجل علينا منذ الصباح، وقدمه إلي السيد صالح القزاز، فبادر الرجل فحياني ضيفا للطائف أجمل تحية، وهو بدوي في سحنته وفي حديثه وفي لباسه وفي تحيته وفي كل ما يبدو من مظهره، أسمر السحنة، عربي التقاطيع، تلمع عيناه السوداوان ببريق من ذكاء فطري، وتدل لهجة حديثه اللينة على دهاء وسعة حيلة، يلبس الصمادة والعقال الصوف على رأسه، وجلبابا يتمنطق فوقه بقماشة حمراء أشبه شيء بالفوطة، تتدلى من خصره إلى أسفل ظهره حتى تحاذي الركبتين في مثلث لا يبدو منه من الأمام غير انحدار القماش من حيث يربط حتى يستدير ليبدو في صورة المثلث وراء ظهره، وهو يلبس في قدميه نعلين حجازيتين لا شيء فيهما من زخرف النعال التي يلبسها اليوم أهل مكة، والتي زخرفت منذ الفتح الوهابي الأخير على طراز النعال النجدية، ولما ذكر السيد صالح القزاز وهو يقدمه أنه سيكون دليلنا في بادية الطائف وما حولها أبدى الرجل من الاغتباط بذلك ومن تفتح قلبه له ما زادنا اغتباطا برفقته وأنسا به.
يقع منزل السيد محمد سرور الصبان، حيث أقمنا، في أقصى الطائف بضاحية تدعى قروة، وبهذه الضاحية عدة آبار أشهرها بئر عجلان المعروفة بعذوبة مائها، ومكان هذه البئر منها على مقربة من جبل السكارى في جنوب الطائف، ويطلق هذا الاسم على الجبل الذي تسمى به منذ العصور الأولى، وأنت لذلك تجده في الكتب القديمة، وسبب إطلاقه فيما يذكرون أن أهل الطائف كانوا يذهبون إليه في أعيادهم الأهلية يسمرون ويسكرون.
ومنازل قروة قليلة، وبها مبان لم تتم، وبها آثار منازل مهدمة، هذا مع وفرة مائها وكثرة آبارها وصلاحها للسكنى والاصطياف، ويذكر أهل الطائف، وتؤيدهم كتب الرحلات إليها، أن قروة كانت عامرة كثيرة الدور مقصودة من المصطافين من أهل مكة وغيرهم، وأنه كان بها خمسة عشر بستانا، فلما وقعت الحوادث الأخيرة ودخل الوهابيون الطائف دمرت أكثر منازلها وهجرها أهلها، وصارت إلى ما رأيتها عليه من قلة المنازل وانعدمت بساتينها.
غادرت المنزل مع أصحابي ومعنا الشريف حمزة وركبنا السيارة نبتغي زيارة الطائف ذات التاريخ المجيد، فلنذهب إذن إلى البقعة التي تفاخر بها الطائف كل مكان آخر في بلاد العرب، تلك حيث دفن أصحاب الرسول الذين قتلوا حين حصار الطائف، والذين بقي اسمهم علما على التضحية بالحياة في سبيل الحق، كما بقي أبناء الطائف المثل الأعلى لاستماتة أبناء الوطن في الدفاع عن وطنهم، وذهبت بنا السيارة إلى مسجد ابن عباس القائم حيث كان جيش المسلمين الذين حاصروا الطائف على عهد النبي، والمجاور لقبور الصحابة الذين استشهدوا في هذا الحصار، إذ تقع القبور في مكان مسور بجوار المسجد من ناحية الشمال، وقد سلكت السيارة إلى المسجد طرقا خارج المدينة ثم انحدرت من طريق ينتهي إلى ميدان المسجد، ولم يكن ذلك عسيرا والمسجد يقع من المدينة في الطرف الذي يقابل موقع قروة، فلا حاجة بالذاهب إليه أن يجوس خلال مساكنها، وبين الميدان وباب المسجد ممر يبلغ طوله بين الخمسة عشر مترا والعشرين، وعرضه نحو ستة أمتار أو سبعة، وإلى يسار السائر في هذا الممر متجها إلى المسجد مبان يذكرون أنها مدرسة ومكتبة، وهي على نظام المباني المتصلة بالمساجد القديمة في مصر، والتي كانت مكاتب ومدارس إلى أول القرن العشرين، لها نوافذ واسعة تتقاطع فيها قضب الحديد لتحول بين داخلها والخارج، ويتعرج الممر عند باب المسجد، فإذا سار الإنسان فيه ألفى بابا مقفلا بالحجر، ذلك باب قبر ابن عباس الذي كان يزار فيما مضى ولا يسمح لأحد اليوم بزيارته، وكانت على هذا القبر قبة هدمها الإخوان فيما هدموا من القباب حين دخلوا الطائف والحجاز كله.
وباب المسجد يقابل الميدان، ويتخطى الإنسان منه إلى فناء مكشوف لا تقام فيه صلاة، فإذا وقف فيه متجها إلى ناحية القبر كان المسجد أمامه والمحراب في صدره، والمسجد مسقوف كله، قائم سقف على عمد فوقها عقود، مفروش كله، بعضه بالسجاد وبعضه بالحصير، فسيح الجنبات يتسع لبضعة آلاف من المصلين، وللقبر باب من ناحية المسجد غير بابه المطل على الخارج والذي أقفل بالحجر، وقد أقفلت أبواب مقصورة القبر من ناحية المسجد إقفالا محكما لا سبيل معه إلى دخول أحد عند القبر للتبرك به أو لاتخاذ صاحبه إلى الله زلفى، فمذهب الإخوان في هذا الأمر حاسم لا يقبل هوادة.
وكان الناس فيما مضى يصلون الجمعة في مساجد الطائف الأخرى ولا يقصدون إلى هذا المسجد العباسي؛ ذلك بأن أهل المدينة وما حولها اتخذوه مقبرة تيمنا بدفن موتاهم إلى جانب الصحابة، ورجاء أن يلتقوا في الآخرة بهم فيكونوا لهم شفعاء عند الله، وقد كثرت القبور في المسجد في بعض العهود حتى امتلأ نصف صحنه بها، فلما كان مستهل القرن الحادي عشر الهجري نهى الشريف زيد بن محسن عن الدفن فيه خيفة أن يصير مقبرة كله، وأمر بأن يصلي الناس الجمعة فيه بعد أن كانوا يعتبرونه مقبرة لا تقام فيها الصلاة.
ولم يكن المسجد يومئذ على ما هو عليه من سعة، ولعله لم يبن إلا بعد زمن غير قليل من حكم العباسيين إكراما لقبر ابن عباس، على أنه كان موضع التجلة والإكرام في مختلف العصور، فكان كلما تخرب منه جانب عمر، وقد تضافر أمراء المسلمين من أهل اليمن والحجاز ومصر على عمارته، كذلك كان شأنه، حتى لقد عهد والي الشام محمد باشا العظم إلى أحد المعماريين المشهود لهم بالتفوق بأن يزيد في عمارته فزاد فيه اثنتين وثلاثين ذراعا في الطول ومثلها في العرض وذلك في سنة 1193 هجرية.
وابن عباس صاحب هذا القبر والذي سمي المسجد باسمه، أو الحبر ابن عباس كما يسميه بعضهم، هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي العربي، وجد الخلفاء العباسيين، وليس أحد قرأ علوم الإسلام إلا يعرفه كل المعرفة، فهو من رواة الحديث المعروفين، وهو من أكثر أهل زمانه ذكاء وعلما، وكان أبيض وسيما، جسيما، مشربا صفرة، طويلا، صبيح الوجه، له وفرة، يخضب بالحناء ويلبس الخز، ويعتم بعمامة سوداء يرخيها شبرا، توفي سنة 88 هجرية بعد أن كف بصره.
অজানা পৃষ্ঠা