عفى الوهابيون على كل أثر لهذه الدار، فهدموا ما كان الناس يزورونه من رسومها، وهم لم يهدموا في الحق دار خديجة، إنما هدموا ما أقيم ذكرى لها، وهي قد عمرت في عهد الخليفة الناصر العباسي، ثم عمرت في عهد الملك الأشرف صاحب مصر، وعمرها كذلك ملك مصر الظاهر برقوق، ولعلها عمرت بعد ذلك غير مرة، والظاهر أن عمارتها كانت تختلف شكلا، فيما يتصوره الناس، عما كانت عليه في عصر النبي، فما وصفها به الفاسي في «شفاء الغرام» يختلف عن صفتها في رحلة البتانوني، فبينما كانت في عهد الفاسي على صفة المسجد وكانت لها عقود وأساطين إذا هي في رحلة البتانوني بالغة غاية البساطة، تنحدر عن الأرض انحدار مولد النبي، وينحدر النازل إليها درجات عدة، فيواجهه عن يمينه بهو وغرفة فسيحة، وعن يساره باب يدخل الإنسان منه إلى ثلاث غرف، كانت إحداها سكنا للنبي مع خديجة، وكانت الثانية سكنا لبناتها، وغرفة ثالثة صغيرة يطلق الكتاب عليها اسم غرفة الوحي، وكانت فيما يذكرون مصلى النبي ومهبط الوحي عليه، وأمام ذلك كله بعرض البيت مكان مرتفع يظن البتانوني أن خديجة كانت تخزن فيه تجارتها.
أسائل نفسي: لو أن دارا في الغرب حوت من الذكريات الخالدة ما حوته دار خديجة، وأراد رجال الفن هناك أن يقيموا لهذه الذكريات رمزا، فماذا عساهم يصنعون؟ فهي قد حوت ذكريات نفسية وروحية وعقلية لم تحو مثلها دار غيرها؛ في هذه الدار وقفت خديجة ترقب في علية لها عود محمد بتجارتها من الشام، فلما دخل عليها في شبابه وقوته وذكائه وأمانته وقع من قلبها وهي في الأربعين سنا، وفي هذه الدار عرف محمد اليسر بعد العسر، ورخاء العيش بعد شدته، وفيها أنجب أبناءه من خديجة، فكان الوفاء لزوجه، والبر بأبنائه، وكان في ذلك أسوة ومثلا كما كان في أمانته بين قومه، وفيها رغب عن الرخاء وعن نعمة العيش، وسما فوق عواطف الزوجية والأبوة وانقطع للتحنث في حراء - بعد أن سما بخديجة إلى مثل سموه - وجعلها أشد تطلعا إلى موضع تأمله منها إلى ربح تجارتها وازدياد مالها، وإليها رجع من حراء بعد الوحي الأول وقد ملك عليه الفزع كل نفسه وهو يقول: زملوني زملوني، فوجد في خديجة الزوج الوفية البارة العطوف، وفيها انقطع إلى ربه يعبده ويدعوه أن يهيئ له الأسباب لدعوة قومه إلى الهدى ودين الحق، وفيها نزل عليه الوحي بعد فتوره، وفيها ذاق لذة الحقيقة والدعوة إليها لذة تسمو على خصومة قريش وأذاها، وفيها ماتت خديجة وحز الألم في نفسه لفراقها، ثم هونت رسالته الكبرى عليه ألمه، وفيها بات ليلة اعتزم الهجرة إلى يثرب، وقد أحاط بها فتيان مكة يريدون قتله، إن في كل واحدة من هذه الذكريات الباقية على الدهر ما يلهم رب الفن أسمى صور الفن وألوانه، ولكنها إذ تتداعى جميعا إلى نفسه تذره في حيرة لا يجد وسيلة إلى صورة أو معنى مستقل بذاته يجسمها جميعا ويطبع منها في النفس أثرا باقيا بقاءها، اللهم إلا أن يلهم صورة تمثل الدعوة إلى التوحيد في أسمى صور التوحيد صفاء وقوة، فهذه الدعوة هي جوهر الحياة ورحيقها في حياة النبي العربي وفي تعاليمه.
أصاب الوهابيون مولد علي في شعب بني هاشم بما أصابوا به مولد النبي ومولد فاطمة، فهو اليوم فضاء لا أثر فيه، ولعل أولي الأمر في الحجاز يفكرون في تعميره، ولعلهم يوفقون حين يعملون لأثر لا يثير الحفائظ بين الشيعة وأهل السنة.
بمكة آثار غير المسجد والآبار والدور؛ بها الجبال وشعابها، حين كان المسلمون يأوون من أذى المشركين، والأساطير التي أضيفت على هذه الجبال ليست أقل بهاء مما يضفيه أهل مكة على سائر الآثار فيها، لكن التاريخ لا يثبت من هذا كله شيئا.
والأثر الخالد الحق في مكة بيت الله، وكل أثر غيره يتصل به ويعنو له، إليه يولي الناس وجوههم وهم بمكة، وحيثما كانوا ولوا وجوههم شطره.
في غار حراء
الكعبة والحرم أول ما يتجه إليه من يحج مكة وأشد ما يسترعي نظره فيها، فإذا أتم الناس شعائر الحج طوافا وسعيا، ظلت الكعبة وظل الحرم مع ذلك مثابتهم ما أقاموا بالبلد الحرام، وإن كثيرين منهم ليتجهون بعد زيارة الحرم إلى زيارة مقابر آل البيت، هذه المقابر التي كانت موضع تقديس ورعاية من حكومة البلاد وأهلها، ومن زائريها، ومن المسلمين في شتى بقاع الأرض؛ حتى إذ تولى النجديون أمر الحجاز أنكروا تقديس هذه الأماكن واعتبروه إشراكا بالله في عبادته، فهدموا ما أقامه السلف عليها من قباب ومساجد، وجعلوا على بعضها حراسا وأبوابا توصد، ولم يصرف الحراس الناس عن زيارة مقابر آل البيت، ولم تحل الأبواب بينهم وبين الوقوف بها والدعاء لساكنيها واستغفار الله لهم وقراءة الفاتحة لأرواحهم.
ويتجه بعضهم بنظره إلى حراء وإلى الغار الذي بأعلاه، ولقد قل عدد هؤلاء بعد حكم النجديين الحجاز، وبعد أن هدموا القبة التي كانت مقامة فوق هذا الجبل، وجنت قلة الصاعدين إلى قمة حراء على مقهى كان قائما على مقربة من القمة عند صهريج كان يختزن مياه المطر، كما جنت على الطريق المعبد الذي كان يتخذه الصاعدون إلى القمة، أما المقهى فلم يبق له أثر، وأما الطريق ففسد وشق الصعود عليه، بذلك زاد عدد الصاعدين إلى غار حراء قلة، ولم يبق منهم من يكابد مشقة الصعود إلا الذين درسوا تاريخ الرسول وعرفوا نزول الوحي لأول مرة على محمد أثناء تحنثه بحراء. هؤلاء يحرصون على أن يصعدوا جبل النور، وأن يصلوا إلى الغار الذي اتخذه محمد مقرا، والذي جاء إليه جبريل أثناء مقامه به يلقي عليه أول ما جاء به من القرآن:
اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم ، وهؤلاء يرون في الجبل وفي الغار فوقه أقدس مكان تجب له الزيارة بعد حج البيت، فهو منزل الرسالة، وهو مهبط النور، وهو مقام الرسول قبل البعث يلتمس الحقيقة حتى أوحاها الله إليه، وهو اليوم كما كان منذ خمسة عشر قرنا مضت، لم تعد عليه عادية، ولم يغير منه حاكم ولا محكوم، وسيبقى كذلك علما على الوحي وعلى الرسالة حتى يوم الدين.
ومذ وقع نظري على حراء حين ذهابي إلى قصر الملك غداة وصولي إلى مكة تعلق به نظري وشدت إليه مشاعري، وتمثل لي حيثما ذكرته بهذه العزلة العجيبة التي تفرد بها عما حوله من الجبال، وبهذه الاستقامة المخروطية في انطلاقه إلى السماء، استقامة تجعله أدنى إلى برج شاده الإنسان منه إلى جبل قائم بين عشرات من الجبال حوله، والحق أن الحادث الفذ الذي جعله القدر نصيب هذا الجبل، حادث نزول الملك على محمد بأول الوحي وهو يتحنث بالغار فوقه، جدير بأن يجعل منه علما في تاريخ الإنسانية يتعلق به ذهن كل إنسان، ويتوجه إليه قلبه أكثر من كل موضع سواه، ويزيد الذهن تعلقا به والقلب توجها إليه أن هذا الحادث لم يكن حادثا عارضا من خوارق أعمال القدر لم يمهد القدر له، بل كان نتيجة لتمهيد طويل خلال سنوات عدة أدب محمدا ربه أثناءها وطهر نفسه، وأعده لتلقي رسالته وإبلاغها للناس.
অজানা পৃষ্ঠা