والآبار بعض هذه الآثار، وهي تختلف عن المساجد في أنها لم تنشأ بعد أجيال من عهد النبي ذكرا لقصة أو حديث رواه الرواة أو تداوله الكتاب، بل كان منها في عهد النبي عدد غير قليل اندثر بعضه وجد من بعد غيره، لكنك قل أن تعثر في تواريخ مكة على شيء ثابت عنها، وما سوى زمزم من الآبار تختلف عليه الرواية أشد الاختلاف.
وليس يذكر «الأزرقي» في كتابه «أخبار مكة» عن آبار الجاهلية إلا الشيء القليل، وإن ذكر أساطير شتى عن الآبار التي أنشأتها قريش حين بدأ تكاثر الناس بأم القرى، فأما ما جد بعد الإسلام فكثير، بقي موضع الرعاية ما استقى الناس منه، فلما أجرت زبيدة زوج الرشيد الماء إلى مكة لم يبق ما يثير العناية بهذه الآبار، وإن احتفظ أهل مكة منها بما علقوا عليه ألوان القصص الديني ليثيروا به تطلع الذين يزورون مكة، والذين يبتغون أثناء زيارتهم إياها كل سبيل للتبرك والمثوبة.
كنت أحفظ في حياتي كثيرا من الشعر العربي نسيت الآن أكثره، ومما لا يزال عالقا بذاكرتي قول الشاعر:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
ولم يكن للحجون ولا للصفا أية صورة معينة في ذهني، وقد عرفت الصفا حين سعيت بين الصفا والمروة، وعرفت أنها ربوة أحيطت بالجدران، أما الحجون فطريق بين جبلي كدي وكدى ، ويقع أولهما بأعلى مكة، ويسير الآخر حتى يصل إلى أسفلها، وطريق الحجون يصل بين السفوح التي تقع عليها مقبرة المعلاة وما عند المسفلة نحو الجنوب من مكة، ولقيتنا أول ما برزنا من الحجون بئر عليها بناء غير مرتفع، قال صاحبي: إنها بئر طوى، وإن الرسول اغتسل منها حين دخوله مكة عام الفتح؛ ولهذا يسن الاغتسال منها عند دخول مكة، ويضبط الأزرقي وغيره من قدماء المؤلفين اسم هذه البئر على أنها الطوى، والبناء القائم عليها بناء حقير لا أحسب الذين أقاموه قصدوا إلى أكثر من إعلام البئر وحفظها به، والبئر من داخل البناء قد أحيطت فوهتها بأحجار تشبه البناء، وتدلت فيها دلو يشدها حبل غليظ معلق إلى بكرة أحدثها المعاصرون من أهل مكة.
ولم أقف داخل مكة على آبار أخرى غير بئر عثمان المنسوب إحداثها إلى عثمان بن عفان، وهي تقع الآن في رباط المغاربة، والدخول إلى هذا الرباط واجتيازه إلى البئر يعيد إلى الذاكرة أشد أحياء القاهرة القديمة قذارة وبعدا عن أسباب الصحة؛ فقد اجتزنا حارة ضيقة لا تدخلها الشمس، قذرة لا تنظفها مكنسة، تزكم الأنف روائح تفوح منها وتجري فيها جراثيم الأنيميا، ودخلنا الرباط، فكأننا دخلنا مستوقدا أو شرا من مستوقد، ولقد حدثتني نفسي أن أعود أدراجي قبل أن نبلغ البئر لولا الحياء ممن معي من أهل مكة، ومدخل الرباط أشد من مدخل الحارة ضيقا وأكثر قذارة، وألفيت إلى جانب جدرانه أشباحا أحسبهم أشخاصا يعيشون في هذا الرباط، وبلغنا البئر فإذا فوقها بناء أكثر ارتفاعا من بناء بئر طوى، وفوهتها كفوهتها محاطة بأحجار البناء، يتدلى فيها حبل يدور على بكرة، ويمسك في نهايته دلوا هي التي يمتح بها ماء البئر.
الدور التاريخية بمكة أثبت نسبا من المساجد والآبار، وإذا قامت الشبهة في نسب الكثير منها، فبعضها متواترة أنباؤه ولا يشتد عليه خلاف، وأنت واجد من ذكر هذه الدور الشيء الكثير في أقدم ما كتب من تواريخ مكة، لكن ما يتصل منها بعهد الرسول وما يثبت على التاريخ قليل.
ودار الأرقم أو الخيزران من أشهر هذه الدور وأثبتها نسبا، وهي تثير في النفس ذكرى من أروع الذكريات في حياة محمد - عليه السلام، فقد كان يجلس في هذه الدار يوما مع أصحابه والإسلام لا يزال في أول عهده، وقريش ما تزال تحاول القضاء عليه، وكان عمر بن الخطاب على الجاهلية إلى يومئذ، ولقد فكر في أن يريح قريشا من هذا الذي سب آلهتها وفرق أمرها بأن يذهب إليه فيقتله، ولقي في طريقه نعيم بن عبد الله وأظهره على طويته، قال له نعيم: والله قد غرتك نفسك من نفسك يا عمر! أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا؟! أفلا ترجع إلى أهل بيتك وتقيم أمرهم؟! وكانت فاطمة أخت عمر وزوجها سعيد بن زيد قد أسلما.
وكر عمر راجعا إليهما حين عرف من نعيم أمرهما، ودخل البيت عليهما وعندهما من يقرأ القرآن، فلما أحس أهل الدار دنوه، اختفى القارئ وأخفت فاطمة ما يقرأ، وسأل عمر: ما هذه الهينمة التي سمعت؟! لقد علمت أنكما تابعتما محمدا على دينه، وبطش بسعيد، فقامت فاطمة تحمي زوجها فصدمها فشجها، إذ ذاك هاج هائج الزوجين وصاحا به: نعم أسلمنا، فاقض ما أنت قاض! واضطرب عمر حين رأى ما بأخته من الدم، وغلبه بره وعطفه فارعوى وسأل أخته أن تعطيه الصحيفة التي كانوا يقرءون، فلما قرأها اهتز وأخذه إعجازها وجلالها وسمو الدعوة التي تدعو إليها، وخرج يريد محمدا كي يعلن إليه إسلامه.
অজানা পৃষ্ঠা