وكانت مقبرة المعلاة أول ما اتجهت إليه زيارتنا، وإن بي لزيارة المقابر لهوى ملحا؛ فالمقابر مستقر الأعزاء الذين سبقونها إلى دار الخلد، وهي مستقر الإنسانية وموضع سكنها بعد الفراغ من واجب الحياة، والمقابر هي العبرة الباقية تحدثنا عن الوجود وتصور لنا قيمته، أليس القبر هو الإنسانية الماضية كلها، بل الحياة الماضية كلها لهذا الكون؟! وإذا صح ما قيل من أن من مات قامت قيامته فالقبر هو المظهر المادي لصلة الأحياء والأموات، والأموات هم إخواننا وآباؤنا وأبناؤنا الذين سبقونا إلى الرحيل، والذين يتصلون بنا بعد موتهم بما خلفوا لنا من آثارهم، ونتصل بهم نحن اتصالا لا ينقصه إلا تبادل المنافع في الحياة، ألم يخاطب الرسول - عليه السلام - قتلى بدر من المشركين بعد أن دفنهم المسلمون في القليب بقوله: «يا أهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ فإنني وجدت ما وعدني ربي حقا؟!» فلما تحدث المسلمون إليه قائلين: «يا رسول الله أتنادي قوما جيفوا؟!» كان جوابه : «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني.»
ومقبرة المعلاة تقع في الشمال الشرقي من مكة، وهي فضاء فسيح محصور بين الجبال من شماله وغربه، وتفصل بينه وبين الجبال من الشرق بعض المساجد والمساكن، ويتصل من الجنوب بمنازل أهل مكة، وهذه المقبرة قديمة ترجع إلى عهد الجاهلية، وهي ما تزال - مع ذلك - مقبرة أهل مكة في هذا الزمن الحاضر، ولعل بقاءها مقبرة حتى اليوم يرجع إلى تقديس المكيين للقبور القديمة التي بها أكثر مما يرجع إلى رغبتهم عن اتخاذ مقبرة لمدينتهم فيما وراء الجبال التي تحصرها.
وقبور المعلاة مسواة بالأرض اليوم، وهي لم تكن كذلك قبل أن يدخل الوهابيون الحجاز، ويفصل بينها وبين الطريق منحدر من الأرض يسمو بها وبما تحويه من ذكريات إلى سفح الجبل، وإنك لترى بها على رءوس قبور شواهد نقشت عليها بالخط الكوفي أو بالخط الثلث الجميل آيات قرآنية في أغلب الأمر، وأسماء ساكني هذه القبور في بعض الأحيان، ولقد صحبنا حارس المقبرة في مسيرنا يهدينا أثناءها إلى مقابر بعض الصحابة والتابعين.
وتقدمنا غير بعيد، ثم وقف يشير بإصبعه إلى قبر ذكر أنه قبر عبد الله بن الزبير صاحب الجهاد المشهور في مقاومة بني أمية، والذي أقام بناء الكعبة في السنة الرابعة والستين من الهجرة بعد أن رماها الحصين بن نمير قائد جيوش يزيد بالمنجنيق، وإلى جانب قبر ابن الزبير أشار الحارس إلى قبر آخر ذكر أنه قبر أمه أسماء بنت أبي بكر، ومد الحارس بصره إلى ناحية الجبل من الشمال ومددنا البصر معه، فأشار إلى جدار قائم في سفح الجبل يحجب ما وراءه ولم ينبس ببنت شفة، أما الشيخ عبد الحميد حديدي فقد أخبرني أن الإخوان الوهابيين شادوا هذا الجدار ليستروا به قبر خديجة أم المؤمنين وقبور بني هاشم من أجداد الرسول عن الأعين؛ وليحولوا بين الحجاج وزيارتها للتبرك لها؛ لأنهم يرون في الزيارة والتبرك إثما، هو إثم الشرك بالله، أو اتخاذ هذه القبور زلفى إليه، وهذا أو ذاك يخالف عقيدتهم الإسلامية ويجعلهم يرمون من يقدم عليه بالمروق والكفر.
وتقدمنا الشيخ عبد الحميد إلى ناحية هذا الجدار متخطيا المقبرة التي كنا بها إلى فضاء يعترض السبيل إليه عارض من خشب سد به الطريق، وطأطأنا رءوسنا واجتزنا هذا العارض، وتسلقنا السفح حتى كنا عند باب قديم قائم في الجدار الذي بصرنا إليه، ودق عبد الحميد الباب بيده، وشعرنا بحركة وراءه، ذلك حارس هذه المقبرة المحرمة يزيل الأحجار التي أوصد بها الباب حتى لا يقتحمه مقتحم، وفتح الحارس المصراع، ودخلنا فحيانا بتحية من يعرف الشيخ عبد الحميد ومن كان معنا من ذوي قرابة أمين العاصمة، وبعد هنيهة أشار إلى قبر على يسار الداخل قال: إنه قبر خديجة بنت خويلد أم المؤمنين، وجدة جميع المنتسبين إلى الرسول بأنهم من أبناء ابنته فاطمة وابن عمه علي بن أبي طالب، وقد سوي هذا القبر بالأرض كما سويت سائر القبور بأمر الوهابيين، وتقدمنا خطوتين بعد ذلك إلى قبور قال الحارس: إنها قبور جدي الرسول: عبد المطلب وعبد مناف وعمه أبي طالب، ثم أشار إلى قبر ذكر أنه قبر أمه آمنة، ولم يدهشني ما ذكره عن قبر آمنة مع علمي أنها توفيت ودفنت بالأبواء بعد الذي ذكره أهل مكة عن هذه الآثار وقيمة سندها من التاريخ، فالقول: بوجود قبر آمنة في هذا المكان إنما كان يقصد به إلى الاستزادة مما يدفعه الحجاج أثناء زيارتهم هذه القبور للتبرك.
وعدت أدراجي خطوات، ووقفت مستقبلا قبر خديجة، هنا إذن يرقد جد النبي وعمه اللذان احتضناه طفلا أيام يتمه! وترقد زوجه الوفية التي وهبته مالها وقلبها وحبها وروحها أيام شبابه وبعد بعثه! في هذه البقعة يثوي أولئك الذين شب محمد بينهم واستظل ببرهم ورعايتهم من يوم ولد إلى أن جاءهم الموت لسنوات بعد رسالته تعرض أثناءها للسوء والأذى والهلاك، عبد المطلب! أبو طالب! خديجة! ما أجل هذه الأسماء وأبقاها على الدهر مذكورة بالتعظيم والإكبار! وإنما بقاؤها واحترامها في اتصالها بهذا الاسم الأكبر؛ اسم محمد النبي العربي الذي استعذب العذاب في سبيل الحق وهداية الناس أداء لرسالة ربه.
فعبد المطلب الجد البار العطوف هو الذي كان يجلس كل يوم إلى جوار الكعبة مثابة عبادة العرب جميعا، فإذا جاء حفيده الطفل اليتيم أدناه منه وأجلسه معه على فراشه وربت على كتفه وغمره بحبه وإعزازه، وأبناؤه أعمام هذا الطفل جلوس من حول الفراش ما يدنو منهم أحد كما يدنو هذا الطفل، ولا العباس الذي كان ضريب محمد في سنه وطفولته.
وأبو طالب العم المسن هو الذي احتضن محمدا من يوم مات عبد المطلب ومحمد ما يزال في الثامنة من عمره، والذي بقي يوليه من العناية والرعاية أكثر مما كان يولي أبناءه إلى أن شب عن الطوق وتزوج خديجة، والذي أظله بحمايته حين دعا إلى دين الله، ووقف دونه مخافة أن يناله من قريش أذى، ولئن ينسى التاريخ من أحداثه ما عساه أن ينسى ليذكرن أبدا في لوحه يوم مشت قريش إلى أبي طالب تنذره بالحرب إن لم يسلم ابن أخيه أو ينهه عنهم، وليسطرن بأحرف من نور كلمة محمد حين دعاه عمه وقص عليه أمر قريش وقال له: «فأبق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق»، ليسطرن بأحرف من نور قول الرسول لعمه: «يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته.»
أما خديجة التي اختارت محمدا لنفسها، والتي ضحت من أجله بمالها، والتي آمنت برسالته أول ما أفضى بها إليها، والتي كانت سنده وقوته في أدق الساعات التي مرت به أول نزول الوحي عليه وحين إيذاء قريش إياه، أما خديجة أم المؤمنين فلن يفيها حقها كل ما يسجله التاريخ إشادة بذكرها، فكيف لا تخلد هذه الأسماء في لوح الوجود خلود إجلال وتعظيم وإكبار؟!
وآن لنا أن ننصرف من المقبرة، فاستوقفنا الحارس إذ مد يده ممسكا بها قطعة من القاشاني الأخضر الجميل اللون زينت أطرافها بنقش فني دقيق وقال: «هذه قطعة من جدار القبة التي كانت على قبر السيدة خديجة!» فقد كان على قبر خديجة قبة شاهقة بارعة الجمال، يذكر المؤرخون أنها بنيت في السنة الخمسين والتسعمائة من الهجرة أثناء ولاية داود باشا بمصر، وأن الذي بناها أمير دفاتر هذا الوالي، الأمير الشهيد محمد بن سليمان الجركسي، وقد أزال الوهابيون هذه القبة فيما أزالوا من القباب أول دخولهم مكة إرضاء لهوى إيمانهم، ثم بقيت صورتها الشمسية تشهد بأنها كانت آية بارعة الجمال في فن العمارة براعة تصد من يفهم هذا الفن عن أن يصيبها بسوء، وكانت إلى جوارها قباب لجدي النبي عبد المطلب وعبد مناف ولعمه أبي طالب، بذلك كانت هذه المقبرة بدعا يعشقه من يحبون جمال الفن، وكان الناس يزورونها إجلالا لهذه القباب وتبركا بذكرى ساكنيها، أما اليوم فلا يفكر أحد في القباب وقد أزيلت، ولا يزور أحد القبور وقد حيل بين الناس وبينها بهذا الجدار الذي يصدهم عنها، على أنهم ما فتئوا يحضرون اليوم كما كانوا يحضرون من قبل فيقفون عند هذا الحاجز الذي تخطيناه قبل أن نصعد سفح الجبل فيقرءون الفاتحة ويلتمسون البركة ثم ينصرفون.
অজানা পৃষ্ঠা