وحيثما آمن الإنسان بأن الحياة فكرة استهان بالموت في سبيل الفكرة، ومن استهان بالموت عنت له الحياة، وكلما ازدادت الفكرة سموا ازداد صاحبها استهانة بالحياة وسموا لذلك عليها، والجماعة التي تعيش من أجل فكرة إنسانية سامية ولا تخشى الموت في سبيلها، تصل من القوة إلى حيث لايغلبها غالب، كذلك كان شأن الجماعة الإسلامية الأولى، كان الإيمان بالوحدانية يملأ نفوس أهلها، حتى ليصغر كل ما في الحياة إلى جانبه، وكانوا يعلنون إيمانهم هذا ولا يكتمونه؛ لم يكن يصرفهم عنه وعد ولا وعيد، ولم تكن لترد الصادقين منهم تضحية وإن عظمت وإن بلغت التضحية بالحياة؛ وبذلك نصرهم الله وفتح لهم فتحا مبينا.
وإنه ليأخذ مني اليوم العجب حين أرى قوما ينادون بغير هذا الرأي أو يعلمون الناس ما يخالفه، وأعجب هذه التعاليم وأشدها فتكا بالقوى الإنسانية قولهم: إن الإنسان آلة، وأعضاء جسمه كأعضاء الآلة، ووجوده وروحه رهينان بسلامة هذه الأعضاء، رهن حركة الآلة ونشاطها بسلامة أجزائها، فإذا أصاب الإنسان الموت أصبح جثة هامدة كما تصبح الآلة ركاما من أجزائها التي فقدت أسباب الحركة، ويزيد في عجبي ما يزعمه قوم من أن هذه الفكرة الآلية هي أساس الحضارة الغربية التي تحكم العالم اليوم، كأنما تستطيع المادة أو يستطيع شيء غير الفكرة أن يطور الحياة أو ينشئ فيها جديدا.
وهذا القول: بأن حضارة الغرب تقوم على هذه الفكرة الآلية وهم يدل على سوء الفهم لحياة الغرب، فعلماء الغرب ومفكروه يقررون ما عرفته الإنسانية الحية في كل أطوارها من أن الفكرة أساس الحياة وأساس كل نشاط فيها، بل إن حياة العلم في هذا العصر لتستند إلى الكلمة التي قالها «ديكارت» في القرن السابع عشر: «أنا أفكر؛ فأنا إذن موجود»، وليس يصح في الذهن أن يكون التفكير أساس الوجود، وأن يكون الوجود الإنساني آليا لا يساوي الوجود الفطري للنبات والحيوان.
وإنما أدى إلى فكرة الآلية في الحياة الإنسانية أن بلغ بعضهم بالفكرة الروحية مبلغا أخرجها عن حكم العقل، ثم أراد مع ذلك أن يصورها في صور من المادة، فهوت بذلك فكرته فيها إلى درك الجمود والتعصب، وحيثما قام التعصب ناضله تعصب يضيق به ذرعا؛ من ثم قامت الفكرة الآلية لنضال أوهام زعمها أصحابها صادرة عن الفكرة الروحية، فأما الحق في الغرب والشرق وفي كل زمان فإن الحياة الإنسانية روح قبل أن تكون مادة، وفكرة متصلة بالروح، وليست حركة آلية تنتظم حياة الجسم وحدها.
والنضال هو الذي نزل في الغرب بالمثل الأعلى إلى الرغبة عن النظر في الروح وفي اتصال الإنسان بالكون نظرا طريقه العقل، ثم إلى التقيد بالمحسوسات المادية واستنباط سنن الكون منها بمنطق العقل وحده، على أن كثيرين من كبار علماء الغرب ومفكريه لم يلبثوا حين رأوا ما في هذا التقيد بالحس من حد لحرية الفكر، أن دعوا لتحطيم هذا التقيد، وأن عالجوا الظاهرات الروحية على الطريقة العلمية، طريقة الملاحظة والتبويب والاستنباط، آملين أن يصلوا من هذا الطريق إلى نتائج أسمى أثرا من ثمرات النظريات النفعية والمادية في الخلق وفي الحياة، وفي اتصال الإنسان بالوجود وبارئ الوجود، وما يحاول الغرب اليوم من سمو هو ما حققه الإسلام منذ نشأته للذين دانوا به.
لذلك كان الروح أساس ما دعا إليه من نظام ومن حرية؛ ولذلك كان المسلمون الأولون أشد حرصا على حرية أرواحهم منهم على حرية أبدانهم، وكانوا يفتدون حرية الروح للفرد بكل قيد للبدن، ويفتدون نظام الروح للجماعة بما شهدت في صلاة الجمعة بالحرم، لم تكن المظاهر تغريهم عن الحقيقة، ولا كان الغلاف يحجب اللب عن أنظارهم، لم يعنهم أن كان المسجد مما حول الكعبة غير مسور، ولم يروا في بيت الله إلا أنه منارة روحية يتوجه إليها المسلمون جميعا على أنه الجامع لقلوبهم ولإيمانهم وتوحيدهم ربهم، لم يتوجه أحد إلى الكعبة بالعبادة لأنها بيت الله، بل قصروا جميعا عبادتهم على رب البيت، كان عمر بن الخطاب يقول وهو يقبل الحجر الأسود حين طوافه: «والله لولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك»، وكذلك كان هداهم روحيا في كل شيء، وكانوا يلتمسون هذا الهدى في كل ما يقع عليه الحس ليروا فيه سنة الله لا تبديل لها، وآية الله شهيدة بربوبيته جل شأنه.
ولم يفكر المسلمون في أن يسوروا ما حول الكعبة ليتخذوا من سياجه قدسا لصلواتهم إلى أن اختار الرسول الرفيق الأعلى وطيلة خلافة أبي بكر، وعلى عهد عمر امتد الفتح الإسلامي وكثر الذين يشهدون الحج، وضاق الفضاء المحيط بالبيت بهم حين الصلاة؛ إذ كانوا يدخلون إليه من الأبواب القائمة بين الدور المحدقة به، عند ذلك اشترى عمر دورا حول الكعبة وهدمها وأدخلها في حرمها وأحاطها بجدار قصير، ولقد أبى بعضهم يومئذ أن ينزل على إرادة عمر، فأجلاهم عن دورهم ووضع لهم ثمنها في خزانة الكعبة، وقال لهم: إنما نزلتم على الكعبة فهو فناؤها، ولم تنزل الكعبة عليكم، وازدادت رقعة الفتح الإسلامي في زمن عثمان، وازداد الذين يشهدون الحج عددا، فاحتذى عثمان مثال عمر وأضاف إلى الكعبة دورا اشتراها.
كان المسجد الحرام يومئذ محاطا بجدار قصير وكان غير مسقف، وكان الناس يجلسون حول البيت وحول جدران المسجد بالغداة والعشي يتفيئون الظلال، فإذا تقلص الظل تفرقت المجالس، ولم يفكر أحد من خلفاء المسلمين ولا من رجال هذا الصدر الأول في زينة المسجد ولا في فخامته، فبساطة الإسلام الحق تنأى بالمؤمن عن هذا التفكير، وعبادة الله لا تعرف الزخرف ولا تتصل به، إنها ابتهال خالص بالقلب إليه - جل شأنه، وتوجه ينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، ويسمو بالنفس على غرور الحياة الدنيا؛ لذلك لم يزد عمر حين ضم إلى المسجد من المنازل المحيطة به ما ضمه على أن أقام جدارا لا يرتفع إلى قامة الرجل، وكذلك فعل عثمان، ويذكر بعضهم أن عمر وضع على الجدار مصابيح تضيء المكان للذين يصلون العشاء، أما قبل عمر فلم تكن ثمة مصابيح، بل كان الناس يقصدون إلى فناء الكعبة ليصلوا وهم في غير حاجة إلى نور يهتدون به، اكتفاء بنور بصائرهم وهدى قلوبهم.
في هذه الأيام الأولى كانت صلاة الجمعة بالحرم يدعو إليها روح مبعثه الإيمان، ونظام قوامه الأخوة، والإيمان والأخوة يسموان بطبيعتهما على الزينة والزخرف؛ لذلك لم يفكر عمر ولا فكر عثمان في أكثر من توسيع رقعة المسجد ليسع المصلين حين الحج، وإضاءته ليهتدي في أرجائه من لا عهد له به؛ ولم تغر عثمان أموال الفتح التي كانت تتدفق من الأقطار الجديدة التي رفرف عليها العلم الإسلامي، فلم يصنع بالمسجد ما صنع قومه في الجاهلية بالكعبة حين كشف عبد المطلب عن زمزم بعد أن بقيت مطمومة ثلاثة قرون، فلقد أخرج من بئر إسماعيل غزالتين من الذهب كان الجرهمي الذي طمها قد أخفاهما بها، فضربهما في باب البيت الحرام حلية له، لم يصنع عثمان صنع من سلف؛ لأن الإسلام جعل التقوى قربان الإنسان إلى ربه، ولم يجعل من مساجد الله هياكل آلهة تعبد ويتقرب إليها المتقربون بالأموال، كما كانوا يتقربون إلى هبل وإلى غيره من الأصنام قبل أن يطهر النبي الكعبة منها.
ولما انقضى عهد الخلافة وشبت نار الحرب الأهلية بين المسلمين باسم الثأر لعثمان من قتلته، بدأت الشوائب تشوب قلوب طائفة من المسلمين وقد حركتها مطامع هذه الحياة الدنيا، فغشت فيها طهر دين الله وصفاءه، على أن الذين أقاموا إلى جوار بيت الله من عترة النبي كانوا أبعد أن تشوب هذه الشوائب قلوبهم، وكانوا أشد لبيت الله ولحرم البيت إكبارا وتعظيما، أقام عبد الله بن الزبير بالحجاز حفيظا على التقاليد الأولى، فلما كانت سنة أربع وستين من الهجرة اشترى دورا وسع بها المسجد الحرام على نحو ما صنع عمر وعثمان من قبل، ولم يزد على أن أحاط الزيادة بجدار المسجد.
অজানা পৃষ্ঠা