كان الشيخ حافظ وهبة - ممثل الحكومة العربية السعودية لدى بلاط لندن الآن - مديرا للتعليم بالحجاز إلى سنة 1930، وقد أراد أن يصلح التعليم بإدخال علوم الجغرافيا والرسم واللغة الأجنبية في المدارس الابتدائية الموجودة دون سواها بالحجاز، لكن العلماء وكبار المشايخ من أهل نجد ما لبثوا حين سمعوا بأمر هذا الإصلاح أن ثارت ثائرتهم واحتجوا لدى الملك ابن السعود على هذا البدع المنكر، واتصل الشيخ حافظ بهم وحاول إقناعهم بأن لا بدعة فيما صنع، فأجابوه بأنهم أبدوا للإمام عبد العزيز الحجج التي لا تنقض عما يترتب على هذه العلوم من فساد، فالرسم هو التصوير وهو محرم قطعا، واللغات ذريعة للوقوف على عقائد الكفار وعلومهم الفاسدة، وفي ذلك الخطر على الأخلاق والعقائد، وأما الجغرافيا ففيها كروية الأرض ودورانها والكلام على النجوم والكواكب مما أخذ به علماء اليونان وأنكره علماء السلف، ولقد استطاع الشيخ حافظ أن يتغلب على عناد كبار المشايخ، لا من طريق إقناعهم، ولكن من طريق تأييد الملك إياه.
وهذا الذي يقول به علماء نجد هو ما يقول به أهل الحجاز ممن سوى الشباب، ولا عجب في ذلك وقد بقي التعليم مهملا في بلاد العرب إلى عصرنا الحاضر، يقول الشيخ حافظ في كتابه «جزيرة العرب في القرن العشرين»:
الأمية تكاد تكون سائدة في جزيرة العرب، وربما كانت أول محاولة لتثقيف العقول والقضاء على شيء من الأمية كانت من جانب السيد محمد على زين الرضا في الحجاز، فإنه في سنة 1326 هجرية وما بعدها قام بإنشاء مدرستين، إحداهما في جدة والأخرى في مكة، ومع ما وضع في طريقه من العقبات وما أحيط به مشروعه من الشكوك من الأتراك والأشراف، فإن هذه المدارس قد قامت بنصيب وافر في الحجاز، وربما كانت الشبيبة الموجودة في الحجاز اليوم هي من غرس هذه المدارس، وإن كانت تسير في التعليم على الطريقة القديمة العتيقة التي تعتمد على الحفظ لا على التفكير، كانت المدارس الوحيدة في الحجاز، على أننا لا ننسى هنا بعض المعاهد التي أسسها الهنود في مكة والمدينة، فإنها قامت أيضا بنصيب يذكر، وكل ما كان في الحجاز هو حلقات الدروس في المسجد الحرام على نظام التدريس في الأزهر قديما، ولم يكن العلماء يلمون إلا ببعض العلوم الشرعية واللغوية.
هذه الشبيبة التي يذكرها الشيخ حافظ هي التي تصبو بوجدانها للحياة الحديثة، ويتعلق خيالها بما تظنه صورها وأمثالها، وشبيبة ذلك مبلغها من العلم لا تستطيع أن تحدث في حياة بلد مقدس كمكة انقلابا في نوع العيش أو في تفكير أهله؛ لذلك ما يزال الأمر في التفكير إلى الأقدمين، وإن كان النشاط العملي لهذه الشبيبة المتحركة المترامية المطامع والآمال، والتفكير هو الذي يصوغ الأشياء على غراره، فبيتك الذي تقيم به، وغرفتك التي تكتب فيها، ومكتبك وتنظيم الكتب عليه، كل ذلك مظهر من مظاهر تفكيرك، وتخطيط المدن والعناية بالميادين فيها وتنظيم عمارتها هو كذلك مظهر لتفكير أهل المدينة، أما وتفكير أهل مكة ما يزال محافظا على قديم لا هو بالعربي الصرف ولا هو بالإسلامي الصرف، ولكنه خليط مما قدمنا، فإن عمارتها وطرقها ومسالكها هي كذلك من هذا النوع، لما يغزها التغير ولما تعمل فيها أيدي التجديد والبناء.
ولو جازت المقارنة لعدت إلى كلمة الشيخ حافظ من أن التعليم في الحجاز كان على نظام التدريس في الأزهر قديما، وحسبك أن ترجع إلى كتاب من كتب الأزهر القديمة وإلى نظام وضعه لترى صورة الحياة بمكة حتى في التنظيم والعمارة، فأنت ترى المتن في كتب الأزهر منثورا خلال الشرح محاطا بالحاشية وعليه إلى جانب ذلك التقرير، مما يجعل هذا وذاك متداخلا بعضه في بعض وما لا يدع في فراغ الصحيفة بياضا قط، القراءة في هذه الكتب تطبع التفكير بطابع صورتها، وتطبع الحياة بطابع هذه الصورة كذلك، وهذا ما لا تزال تراه بمكة، وما كنت تراه إلى عصر قريب جدا في الأحياء المحيطة بالأزهر، وقد أزيل جانب عظيم من هذه الأحياء في العهد الأخير من حياة مصر، لكنك إذ ترى ما بقي من آثار حين تخترق الأحياء التي ما تزال باقية على حالها - كحي الكحكيين وما جاورها - ترى فيها الأثر الواضح لهذا النوع من التفكير.
وإنما حدث هذا التجديد بالقاهرة وببعض مدن الشرق الإسلامي في عهود متأخرة، أما إلى أوائل هذا القرن العشرين فقد كانت هذه المدن مخططة تخطيط مكة اليوم، ويسودها تفكير كتفكير كهول مكة في هذا الزمن الحاضر، بل لقد كانت مكة أسبق إلى التقدم في كثير من العصور في عمارتها وفي لون الحياة عند أهلها، وهي من أقدم مدن الأرض برواية التاريخ الإسلامي، وقد ذكر أبو التاريخ «هيرودوتس» بيتها الذي تعظمه العرب، وهيرودوتس عاش بين سنة 484 وسنة 425 قبل الميلاد، أي: منذ أكثر من ألفين وأربعمائة سنة، لكن بيتها المعظم أحاطها بجلال جعل منها مثابة الرائح والغادي في كل العصور، وجعل أحدث ألوان التفكير والحياة ترد إليها لا على أنها أجنبية عنها غازية إياها، بل على أنها مقبلة من إجلال وإكبار إلى دار السلام مقر الحقيقة في أسمى صورها، وأكبر ظني أن يكون ذلك شأنها من حياتنا الحديثة في زمن غير بعيد.
ولقد زارها الرحالة السويسري «بورخارت» الذي أعلن إسلامه وتسمى باسم الحاج عبد الله في أوائل القرن التاسع عشر المسيحي - سنة 1815 - وكتب عنها طويلا في مؤلفه «جولات في بلاد العرب»، ومراجعة ما كتبه تؤيد أنها كانت موضع تجديد دائم يتم في رفق وعلى هون، ولا تبدو فيه مظاهر الثورة التي لا تتفق ومهابة البلد الحرام ووقاره، يقول «بورخارت» في وصفه ما ترجمته:
الميدان العام الوحيد في قلب البلد هو مربع المسجد الفسيح، وليس ثمة أشجار أو حدائق تبهج النظر، وإنما تدب الحياة إلى مكة أثناء الحج بما يملأ الحوانيت الكثيرة المنتشرة في كل أنحائها من ألوان التجارة، وفيما خلا أربعة منازل أو خمسة يملكها الشريف، ومدرستين صارتا مخازن للغلال، والمسجد بما حوله من المباني والمدارس، فلا فخر لمكة بأية عمائر عامة تقوم بها، وربما كان نقصها في هذه الناحية أشد وضوحا من مثله في أي بلد شرقي آخر في حجمها، فليس بها «خانات» لنزول السائحين بها أو إيداع البضائع إياها، ولا ترى فيها قصورا للعظماء، ولا مساجد كالتي تزين كل حي من أحياء بلاد الشرق الأخرى، وقد يكون السر في عدم وجود عمارات فخمة بها تقديس أهلها معبدهم تقديسا يحول دون إقامة بناء يخشى أن ينافسه.
وطريقة البناء عندهم شبيهة بطريقة البناء في جدة، مضافا إليها نوافذ مطلة على الطريق يبرز الكثير منها من الجدار ويحيط به إطار متقن الحفر أو دقيق التلوين، وتتدلى أمام النوافذ أستار من عيدان دقيقة تمنع الذباب والبعوض وتدخل الهواء النقي، ولكل بيت سطح مرصوف بالحجر في ميل لطيف تنزلق عليه مياه المطر إلى ميازيب تلقي بها في الطريق، فأمطار مكة ليست منتظمة السيلان، ولا يتيسر لذلك جمع مياهها في خزانات، كما يفعلون في سوريا، وتحجب الأسطح عن الأبصار بجدر قصيرة؛ ذلك لأنهم في الشرق يرون الظهور على السطح غير لائق بالرجل حتى لا يتهم بالنظر إلى النساء في الدور المجاورة، فالنساء يقضين كثيرا من الوقت على الأسطح مشتغلات بأعمال منزلية شتى، كتنشيف الغلال، أو تجفيف الملابس، وما إلى ذلك.
وفيما خلا منزل السراة وذوي الرياسة تبنى منازل أهل مكة لراحة النازلين بها، فتقسم إلى شقق في كل منها غرفة للجلوس ومطبخ لتكون صالحة لنزول الحاجين بها.
অজানা পৃষ্ঠা