وأوينا إلى مضاجعنا وكلنا الشغف أن يطالعنا الصبح بشاطئ جدة بعد سفر بالغ البحر أثناءه في اللطف بنا، حتى لوددنا لو نظل وإياه أياما لولا شغفنا ببلوغ البيت العتيق، وتنفس الصبح عن جو صاف ونسيم عذب ويقظة للوجود مستبشرة ضاحكة، وقمنا إلى متاعنا نعده للنزول، وأخوف ما نخافه أن تضيق بنا السويعة الباقية عن إتمام إعداده، وأزفت الساعة السابعة صباحا، وتبدى الشاطئ بشيرا بأم القرى، وإنا لنفكر في النزول إلى جدة وفي الرحيل منها وفي إدراك الجمعة بالحرم إذا «كوثر» تهتز هزة عنيفة وكأنما زلزلت زلزالها، هزة رجت منها مفاصلها جميعا، واضطرب لها كل وجودها، وبعد هنيهة من هذه الهزة التي لم تتسع لأي تفكير منا في أمرها وقفت الباخرة لا حراك بها وكأنها جسد هامد، وفي أثر وقوفها سرت إلى مخدعي من بهوها أصوات المسافرين ترتفع مرتلة: «باسم الله، الله أكبر، ولله الحمد»، فملبية في حماسة فيها إيمان وتقوى.
ما هذه الهزة العنيفة يعقبها وقوف مفاجئ؟! لم يدر بخلدي أن في الأمر ما أخشاه، وما عسى أن أخشى وهذا الشاطئ على مقربة منا قد رأيناه رأي العين؟ وكل ما توهمته أن ربان الباخرة أدارها نحو الشاطئ في عنف نشأت عنه هذه الهزة، ثم وقف بها انتظارا لشرطة المرفأ ورجال الصحة به، وآية ذلك هو الحمد لله من جانب المسافرين، وازددت انهماكا في إعداد متاعي كيما أسبق غيري إلى الزوارق فأسبقهم إلى الشاطئ، وضغطت الجرس أبتغي فنجانا من الشاي أتناوله قبل أن يبغتني الوقت، فلما أجاب الخادم جرسي طلبت إليه الشاي، وسألته عن هزة الباخرة ما كانت؟ فأجاب: لقد شحطت على جزيرة من الرمل ، وعما قريب تعود سيرتها إلى جدة.
شحطت على جزيرة من الرمل؟! لم تكن هذه الهزة المزعجة إذن لفتة من الربان فيها عنف، بل كانت صدمة بجزيرة من جزر البحر وشعب من شعابه، الأمر أجل إذن من أن أقف عند متاعي وإعداده، فلأذهب لأتبين جليته، وتناولت الشاي دراكا وأسرعت إلى بهو الباخرة في لباس إحرامي، فألفيت المسافرين مجتمعين كأنهم يتداولون، وخلوت بأحدهم وسألته فقال: لقد اصطدمنا بشعب من شعاب البحر الأحمر الناتئة بجدة، هذه الشعاب المعروفة للملاحين جميعا؛ لذلك لا أدري كيف دفع الربان السفينة إليه في يقظة النهار وضوء الشمس، وقد قيل لنا: إن الربان بعث رجاله فامتحنوا موضع التصادم من قاع الباخرة، واطمأنوا إلى أنه لا خطر على الباخرة ولا خطر علينا، ولست أدري ما الله صانع بنا من بعد ونحن في وسط البحر بين صخوره وشعابه؟
واشترك معنا في الحديث زميل حاج من رجال التلغراف اللاسلكي، فقال: لقد صعدت إلى الربان ساعة حدثت الصدمة؛ لأنني أعرف في هذا المكان شعبا يدعوه أهل جدة «شعب السامري»، وتثبته الخرائط الأوروبية باسم «شعب سانت ماري»، ولم تدر بخاطري ريبة منذ حدثت الهزة في أننا اصطدمنا به، وذكرت للربان أنني من رجال اللاسلكي الرسميين، وعرضت عليه خدمتي، فشكرني وذكر لي أن عنده رجل اللاسلكي الذي يعمل بالباخرة وأنه لا يخشى خطرا.
وساد الباخرة صمت رهيب بعد ضجة التكبير والتهليل التي أعقبت الصدمة، فقد نسي المسافرون الإحرام والتلبية، ووقف تفكيرهم عند هذا الحادث وأثره، وكان جل تساؤلهم عن مبلغ الخطر وهل يوشك أن يدهمنا؟ ولم تهدأ وساوسنا بعض الشيء إلا بعد ان علمنا أن الشعب الذي ارتطمت به الباخرة شعب أملس يميل متدحرجا في هون إلى الارتفاع، وأن ميله وملوسته وتدرجه طوعت لها أن تزحف عليه وأن تستقر فوقه، ولولا ذلك لتحطمت عليه، ولكنا منذ وقوع الحادث بين يدي الموت يرحم من شاء ويختار من شاء، وقال الذي نقل إلينا هذا التفصيل: لعلكم علمتم أن الماء دخل من نوافذ الحجرات الواقعة عند مؤخر الباخرة ، واضطر رجالها إلى إقفال الأبواب الحديدية المتصلة بهذه الحجرات، ذلك أن الباخرة حينما زحفت فوق الشعب ارتفع مقدمها وانحدر المؤخر، فهوت نوافذ حجرتها فحاذت الماء فتسرب جانب منه إليها قبل أن يحكم إقفالها، ولولا أن وقفت الباخرة حيث وقفت بعد أن تقدمت في زحفها بضعة أمتار، لجرها مؤخرها إلى الماء فابتلعها وابتلعنا معها.
انطلق المسافرون يعلقون على هذا الحديث كل بما عن له، ولم يأب توثب الخيال على بعضهم أن يذكر أن الربان تعمد وقوع الحادث، وكيف لا يكون تعمده - في تصورهم - وهو قد وقع في وضح النهار وفي مكان يعرف كل من مارس البحر الأحمر ما به من شعاب، ولم يعدل هؤلاء عن تصورهم أن أبسط منطق للعقل يأباه، فلا مصلحة للربان الإيطالي في وقوعه، وأيسر نتائجه يؤذيه أبلغ الأذى، والعقل يأبى أن يعرض إنسان نفسه للأذى بلا فائدة ولا مقابل، لكن منطق العقل ليس المنفرد بالسلطان علينا، وكثيرا ما يغلب خيالنا منطقنا بتسلط تصورنا على حسنا، ولقد كنت أشد الناس اقتناعا بهذا المنطق وحرصا على إقناع المسافرين به، مع ذلك ذكرني وقوع الحادث وخوض الناس في تفاصيله بما كان من حديثنا عن الربان في غرفة المائدة قبيل السفر، وقول حكمدار السويس الإنكليزي: قد تكون الحوادث أحيانا أقوى من كل ما نقسم به.
وعدت وعاد المحرمون إلى الخوض في الحادث وكيف وقع، هذا الحادث الذي لم أحسبه أول الأمر ذا بال، وها هو ذا يتجسم الآن خطره، ويزداد جسامة رويدا رويدا في نظري ونظر المسافرين جميعا، فلما أدركنا جسامة الخطر على حقيقتها ازددنا شكرا لله أن وقفت الباخرة حيث هي، يمسكها الشعب وإن مالت إلى جانبها بعض الميل، وامتلأت نفوسنا بالشكر وفاض عنها، فترجمنا عن فيضه بالإمعان في التلبية مكررة قوية صادرة من قلوب زادها تصور الخطر إخلاصا وإيمانا، إن صح أن تزداد قلوب قصدت إلى بيت الله ملبية نداء ربها إخلاصا وإيمانا.
وكان رجال الباخرة الرسميون في مثل ارتباك المسافرين للحادث، حتى لقد اختفوا عن الأنظار، ولم يقف منهم إلى جانب المسافرين من يهون الأمر عليهم أو يبعث الطمأنينة إلى نفوسهم، ولم يعادوهم من الطمأنينة ما يذكرهم واجبهم إلا بعد أربع ساعات من الحادث، إذ ذاك أصدروا بلاغا قيل فيه: إنه لا خطر منه، والحمد لله على «كوثر» وركابها، وإن الباخرة «زمزم» الراسية بمرفأ جدة ستجيء لمعاونتها.
تلقى المسافرون هذا البلاغ بنوع من الاطمئنان لم يكن منه مفر، وزادهم طمأنينة سكينة البحر وصفاء الجو ورقة النسيم من حولنا، والشمس ساطعة يبعث ضياؤها إلى الأفئدة دفئا ينعشها ويزيل كل مخاوفها أن يصيبها من غدر البحر سوء، وهل يغدر البحر بمن أتوا إلى بيت الله حاجين معتمرين؟
وتناولنا غداءنا ولم تكن «زمزم» قد ظهرت في الأفق، ومع لطف الله في قضائه لم تطاوع أحدنا نفسه أن ينزل إلى حجرته يقيل بها، بل بقينا نحدق إلى ناحية الأفق منتظرين الباخرة المنقذة، وقبيل الساعة الثالثة بعد الظهر - أي: بعد ثمان ساعات من الحادث - تبدت «زمزم» مقبلة، فشدت إليها أبصارنا وبقيت معلقة بها حتى وقفت على مقربة منا تختار مكانا يهيئ لها القيام بالمهمة التي ندبت لها حتى يتم انتقالنا إليها بسلام لإيصالنا إلى المرفأ، ذلك ما جاء في بلاغ رجال «كوثر»، وهو ما دار بخاطرنا، لكنا بقينا ساعة كاملة ننتظر هذا الانتقال، ثم لم نر من بوادر التهيؤ له ما يبشر به، وسألنا في ذلك، فقيل لنا: إن التفكير منصرف إلى أن تسحب «زمزم» «كوثر» من مكانها إن أمكن لتدخل الباخرتان جدة معا، فيسدل ذلك على الحادث ستارا ينسى من علم بأمره في مصر وفي غير مصر أنه وقع.
অজানা পৃষ্ঠা