وآن لكوثر أن تتحرك، فتركها المودعون بعد أن ألقوا على المسافرين كلمات الأمل الطيب، وحسن الرجاء في حج مقبول وعود حميد، وانتقل المسافرون إلى ناحية الشاطئ يحيون مودعيهم التحية الأخيرة قبل السفر، فإذا جمع من ألوف الناس على رصيف المرسى لم يلبثوا حين سمعوا الموسيقى تصدح أن تعالى في الجو هتافهم للإسلام وللحج وللوطن هتافا حارا صادرا من حبات القلوب ومن أعماق الأفئدة، ما أبلغ أثر هذا المنظر في النفس! فهذي الألوف الذين جاءوا لتحية المسافرين إلى بيت الله لا يعرف أكثرهم أحدا من هؤلاء المسافرين، وإنما جاءوا يودعون إخوانهم في الدين بقلوب عامرة بالله والوطن، لقد كانت مشاعري تهتز أيما اهتزاز كلما علا نداء هذه الجماهير في الجو، فهذه أمة تلتمس التوجيه الصالح إلى حياة تريدها حياة مجد وعظمة، وتلتمس هذا التوجيه بصدق وإخلاص، وتلتمسه في كل مظهر من مظاهر الحياة المصرية، يملؤها الأمل من اقتراب هذا اليوم الذي يفتح فيه باب الرجاء فتندفع إليه متفانية في سبيله، كلها التضحية للعقيدة، وكلها التضحية للوطن.
وتحركت الباخرة، فعدت إلى ناحيتها الأخرى أشهد أمواج خليج السويس المصري، وأشهد من ورائها مخازن شركة البترول الإنكليزية القائمة في الأراضي المصرية، وأعود بتفكيري إلى الحجاز وإلى الحج، وإلى ألوف المسلمين الذين يؤدون هذه الفريضة في كل عام؛ لأنهم يستطيعون إليها سبيلا.
وشغلت بخليج السويس ومياهه وأمواجه حتى انحدرت الشمس إلى مغيبها، ولما تناولنا طعام العشاء أسرعت إلى مخدعي، علي أجد في النوم ما يعوضني عن مجهود نهاري، وبعض ما يعوضني عن مجهود الأيام التي سبقت.
واستيقظت مع الصبح واستنشقت هواء البحر، ما أرقه وأعذبه وأصحه! وشكرت لله أنعمه وأنا في خلوتي المبكرة فوق سطح الباخرة أشهد شواطئ خليج السويس التي لم تزل قريبة منا، فلما آن ليقظة النهار أن تجمع أصحابي معي كي نتبادل من الحديث أطرافه ألفيتني في رفقة لم ألف منها أحدا فيما سبق من أسفاري، وإن يكن منهم من سافر من قبل إلى أمريكا وأوروبا، وإن يكن منهم من يقيم في باريس أكثر وقته، قال صاحبنا هذا: أولا تعجبكم هذه السكينة التي غمرتنا على البحر منذ غادرنا السويس؟! ولو أن «كوثر» كانت مسافرة في رحلة الصيف إلى أوروبا لسمعنا الموسيقى على العشاء، ولشهدنا فيلما من أفلام السينما المسلية إن لم تحرك الموسيقى شجن ذوي الشجن إلى الرقص، أما وهي مسافرة إلى بيت الله بالذين يريدون وجهه فقد نسيت ما ألفت من ألوان المسرة الساخرة، واتشحت برداء من الحكمة هو وحده الجدير بوجهتنا، ولست أخفي عليكم أنني ابتسمت مساء أمس حين ذكرت ما كان على الباخرة التي أقلتني من أوروبا منذ أسابيع من مرح شد ما كنا نستطيبه، واشتد بي الشوق أن أسمع إذاعة من مصر على الأقل أتداوى بها من ملال السفر على الماء، فلما جنني الليل واشتملت الباخرة سكينته ولم أسمع إذاعة ولا موسيقى، تداويت عن طمأنينة العاطفة بطمأنينة القلب، وادكرت ما أنا مقبل عليه، فطابت إلى سكينة القلب نفسي، وجعلت من ذكر الله وتلبية دعائه أنيسي، وتذكرت أن الأقلين من أوتوا مثل حظي فداولوا في أسابيع بين النهل من ورد باريس وعلمها ومسارحها ومتاحفها ومجتمعاتها الحافلة بأسباب الأنس، وورد المنهل العذب للحياة الروحية بمكة عند بيت الله الحرام وبالمدينة مثوى قبر رسوله - عليه السلام.
وبهت بعض الحضور لهذا القول، فتبادلوا النظرات بينهم هنيهة خيم أثناءها الصمت، ثم قال أحدهم موجها الكلام إلينا جميعا: ائذنوا لي أن أقدم لكم كتيبا جمعت فيه مناسك الحج وأركانه، لعل لكم في تلاوته بعض ما ينفعكم فيما أنتم مقبلون عليه.
وأخرج من جيب قفطانه عدة كتب صغيرة وزعها علينا جميعا، عرفت إذ أجلت النظر فيها أنها تلخص مناسك الحج على المذاهب الأربعة، ولم ينجه هذا التلطف من أن يوجه إليه أحد الحاضرين بعد أن استوى الكتيب في يده قوله: وهل ترك مطوفو مكة لأحد في الحج قولا؟ إنهم ليوجهوننا في كل دقيقة وجليلة من شئون حجنا وإن استوى لأحدنا من العلم بهذه الفريضة ومناسكها ما لا علم بعده.
قال صاحب الكتيب: الذنب على الحاج لا على المطوف، فلو أنه عرف فروض الحج وواجباته وسننه لما كان لمطوف عليه ما تذكر من سلطان.
ومر بنا الخادم فطلبنا إليه قهوة ما كان أشهاها والباخرة تجري بنا فوق لج صاف ونسيم رقيق منعش، وأقمنا نتحدث؛ أن لم نجد غير الحديث ما يسلينا في هذا السفر، فلما نودي لصلاة الظهر قبيل موعد الطعام ذهبت مع القوم إلى حيث يؤمهم فقيه منهم في صلاة الجماعة، وعجبت حين رأيتهم يتخطون بهو الدرجة الأولى، فليس وراء هذا البهو في كوثر إلا «البار»، ولم يدر بخلدي يوما ما أن يكون بار من البارات مسجدا، لكن عجبي لم يمنعني من مشاركة القوم حين رأيتهم اتخذوا من بار كوثر مصلى وما لهم ألا يتخذوه وقد طهر أثناء رحلة الحج من أمهات الكبائر، وأمهات الصغائر، وفرش بالحصير الطاهر؟! وكان هذا المصلى أبلغ آية على أن العمل الصالح يخلع قدسيته على كل مكان يحل فيه، وإن شهد هذا المكان قبل ذلك من الوزر ومن اللهو ما يجعله إذ يشهدهما مثابة لهو ومهد متاع.
وتناول المسافرون طعام الغداء، وقال منهم من اعتاد أن يقيل، وأدوا فريضة العصر في مصلاهم ثم انتظموا جماعات يتحدثون، وجلس في جماعتنا شاب عرف الحجاز ونجدا، وقضى بهما سنوات اتصل أثناءها بابن السعود ورجال حكومته، وكان يرتدي «جلابية» من السكروتة وعباءة من صوف دقيق شف لدقته عما وراءه، وقد طرز ما حول العنق والصدار منها بالقصب، وتدلت من حاشية الصدار «كراريت» مكسوة بالقصب كذلك، وسأله أحد الحاضرين عن هذه العباءة، فقال: إنها لباس أهل الحجاز الرسمي كالجلابية سواء، أما غطاء الرأس عندهم فالطرحة والعقال، وحذاؤهم النعال، وهم يسمون العباءة «المشلح»، وسئل عما يقصونه عن النجديين وشدة تعصبهم لمذهبهم، فقال : كان ذلك أول فتحهم الحجاز وانحدارهم من نجد إليه، فقد دفعوا يومئذ إلى الغزو والفتح عقابا للأشراف أصحاب الحكم في الحجاز على استهانتهم بدين الله وارتكابهم المعاصي، وقيل لهم: إن أهل الحجاز قد أقاموا من القباب أوثانا فهم على عبادتها عاكفون؛ لذلك كانوا يحطمون القباب أينما ثقفوها، كما كان المسلمون الأولون يحطمون الأصنام، وكانوا يبالغون فيما يسمونه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى كانوا يعتدون على المدخنين وعلى غير الملتحين، أما اليوم فقد استقرت الأمور إلى نصاب وسط تواضع عليه القوم، وكان للحجاج من البلاد الإسلامية المختلفة أثر بالغ في تقريره، وما أحسب مسلما يرى هذا النصاب الوسط اليوم عنتا، فالإخوان «النجديون» حريصون على أن يسيروا حيث ولوا الأمر على حكم كتاب الله وسنة رسوله؛ لذلك يجزى كل من جهر بمعصية بالحد الشرعي، بذلك اختفى ما كان باديا قبل توليهم أمر الحجاز من استهتار ومجون، فلم يبق من يعاقر جهرة الخمر، أو يغازل جهرة غلاما، وتطبيق الحدود على الجرائم هو الذي أقر الأمر في نصابه، حتى صار الحجاز يفاخر بحق أكثر الأمم طمأنينة وأمنا، والفضل في هذا النصاب الوسط يرجع إلى ما بدءوا به من شدة وتزمت. «وإنما أدى بالحكومة الحجازية إلى العدول عن بعض ما كان أهل نجد يشتدون فيه كشدتهم في إرخاء اللحية، وقص الشارب وعدم التدخين، وما إلى ذلك مما يبيحه غير المذهب الحنبلي من المذاهب الإسلامية، ما حدث غير مرة من أهل نجد وأهل المذاهب الأخرى من المسلمين أثناء أشهر الحج مما كان له أثره في الحج، وفي الحالة الاقتصادية في البلاد، ولو ذكرتم أن التسامح في مسألة التدخين يرجع في كثير إلى تأثر إيراد المكوس «الجمارك» الحجازية بسبب منعه، لعلمتم ما للحالة الاقتصادية من أثر كبير في العقائد والعادات.»
بينا كنا نستمع لصاحبنا يتحدث عن الحجاز وما صنع به أهل نجد، مر بنا جماعة ليسوا مصريين لبسوا لباس الإحرام، وإذ كان بيننا وبين ميقات الحج برابغ يوم كامل، فقد فسر أحد الحاضرين سبقهم إلى الإحرام بأنه تعجل لمغفرة الله واستزادة من ثوابه.
অজানা পৃষ্ঠা