ومررنا إذ خرجنا من المدينة ببئر عروة فملأت من مائها «ترامسي»، وافتقدت في هذه اللحظة الخرائط التي أهداها إلي المستر فلبي فإذا بي نسيتها بدار مضيفي، ففكرت في العودة لأحضرها، لكن صاحبي آثر أن نبقى حيث نحن وأن يعود حسن بالسيارة فيردها علي، وبقينا نتفيأ ظل الجبل بظاهر المدينة وننعم من هواء الصحراء الجاف الرقيق بما كنت في حاجة إليه أشد الحاجة بعد أن قضينا بالمدينة عشرة أيام كاملة.
وعاد حسن بالخرائط وعدنا إلى انطلاقنا فبلغنا المسيجيد بعد العشاء، فألفينا جماعة من مواطنينا قد سبقونا إليها، أولئك أعضاء البعثة الطبية المصرية الذي غادروا المدينة يبتغون ينبع ليدركوا الباخرة المصرية الأخيرة العائدة إلى أرض الوطن، وقضينا شطرا من الليل أتحدث وإياهم عن الحج والحجاز، وسألت بعضهم: ألا يريدون أن يروا بدرا معي؟ وكان جوابهم أن ابتسموا معتذرين، قال أحدهم: «لو أن الطريق إلى بدر كان معبدا لفكرنا في الاستجابة إلى صحبتك، أما وأنت أدنى أن تكون مكتشفا في ذهابك إليها فأعذرنا، وسنقرأ يوما ما تكتبه عنها، فيكون لك ثواب المشقة ولنا متاع القراءة، وسنجد في وصفك بدرا غنى عن الضرب في تيهاء الطريق إليها.»
إذ ذاك ناجيت نفسي، أين نحن اليوم من المسلمين الأولين! أولئك كانوا يذهبون إلى بدر وغير بدر لا تصدهم مشقة ولا يقعد بهم تكاسل، وكانوا يذهبون لا يعنيهم أواجههم الموت فواجهوه، أم أقاموا حين موسم بدر - وكانت من مواسم العرب - فنحروا الجزر، وسقوا الخمر، وعزفت عليهم القيان، أما نحن فنرغب عن بدر وزيارتها حذر مشقة الطريق، وإن ذهبنا إليها في السيارة؛ لأن بدرا لم تبق موسما؛ ولأن الكتب لا تذكر لزيارة شهداء بدر والسلام عليهم - ادكارا لعبرتهم وتأسيا بمثلهم - ثوابا نقتضيه كما يقتضي المرابي ربا ماله، والفرق في ذلك بيننا وبين السلف الأول أنهم كانوا ينفقون من جهدهم ويبذلون حياتهم ابتغاء رضا ربهم يرجون ثوابه ويخشون عقابه، وعند الله حسن الثواب، وأننا لا نبذل جهدا، ونضن بحياتنا إلا على أهوائنا، فإذا دعينا لخير أو بر اقتضينا المثوبة عنه معجلة، أو اقتضينا بهذه المثوبة على الله صكا يسجله عالم في كتاب من كتبه ، نزعم أنه يكون حجتنا على الله يوم الحساب.
وقضينا بفندق المسيجيد ليلة كليلتنا بفندق آبار بني حصان، فلما تنفس الصبح قمنا وقام أصحابنا ، فأعاد كل متاعه إلى سيارته، وذر قرن الشمس ونحن على الطريق إلى الحمراء، والطريق يجري في واد فسيح تنبت فيه بين حين وحين أغراس من أشجار شتى، تلك خيوف منثورة بين المدينة وينبع على طريق بدر، «وقد تواضع القوم في بلاد العرب اليوم على أن الخيف مجموع بساتين تأخذ وجبتها من الماء كل أربع وعشرين ساعة ثم يقطع الماء عنها ليصرف إلى خيف غيرها، والخيف فيما تروي المعجمات: ما انحدر عن غلظ الجبل وارتفع عن مسيل الماء»، ويمر الإنسان في ذهابه إلى الحمراء بخيف الحزامى وأم ديان.
ومن الحمراء يسير الذين يقصدون في طريق عبد للسيارات يؤدي إلى منطقة نقب الفار، وقد سمي الطريق باسمها، أما ونحن نقصد بدرا فلنا طريق آخر، أين هو؟ وكيف يتجه؟ سألت الجندي الدليل الذي أوفده أمير المدينة معنا فلم يكن أكثر علما بالأمر مني، لا سبيل إذن إلا أن نسأل أهل المنطقة، وفي أمثالنا المصرية: «من سأل لا يضل»، وسألنا صغيرا هناك هدانا طريقا لم نلبث حين سرنا فيه أن رأينا من موج رماله ما ذكرنا بليلتنا بين بئر الشيخ وآبار بني حصان، ولم يكذبنا حدسنا، فسرعان ما غاصت السيارة واضطررنا إلى النزول منها وإلى التعاون على دفعها، وفيما نفعل مر بنا بدوي خاطبه الجندي النجدي في لهجة الآمر فجاء يعاوننا، ثم ذكر لنا أن هذه الطريق تؤدي إلى بدر حقا، ولكنها طريق أفسدها السيل ولم تمر بها طول العام سيارة واحدة.
نبتت في هذه الرمال أشجار وحشائش دلتنا على أن الماء منها قريب، لكن ما عسى يجدي الماء واقترابه إذا لم يستعن به الإنسان على حاجاته، ومنها تعبيد الطرق؟! على أن للحكومة العذر ألا تعبد طريقا قل من يمر به، وإنا لنتبادل هذه الملاحظات ونتعاون على دفع السيارة إذ مر بدوي يتبع بعيرا له، فلما علم أنا نقصد بدرا بدت على وجهه الأشعث شبهة ابتسامة، ثم قال في لهجة غريبة قولا لا أفهم إلا قليلا منه، فسره أصحابي بأنا نغامر باختيار هذا الطريق للسيارة وللبكس، ووقعت عين بعيره على نبات في الأرض فأقام يرعاه، ووقف البدوي في جانبه صامتا لا يشترك في معاونتنا ولا يدفع بعيره ليسير، وعجبت لأمره، ورأى صاحبي عجبي، فابتسم وقال: وما تعجبك ومرعى بعيره أثمن ما في الحياة عنده؟! فهو يحمل عليه الحاج ومتاعهم ويرتزق من حمله وهو يقف إلى جانبه كلما وجد البعير مرعى ينال منه رزقه، وأمسك صاحبي هنيهة ثم أردف: تلك حياة البادية! «تلك حياة البادية!» أثارت هذه الكلمة في نفسي صورة العيش في هذه البلاد منذ القدم، وصورة العيش في البادية حيثما وجدت من أرض الله، ولطالما رأيت البدو في مصر يجيئون إليها من الشام أو من المغرب ويرتحلون عنها أو يقيمون بها ولا تتغير في الحالين عاداتهم ما بقي الارتحال في طبعهم، فالجلوس في خيامهم إذا أقاموا، والارتحال وراء دوابهم إذا تحملوا، والحديث المتصل ما اجتمعوا، يقص كل أثناءه من مبالغات الخيال ما لا يجد في الطبيعة المترامية أمامه حدا، أليست الطبيعة المترامية مصدر الإلهام الوجداني للمهذب، وهي مصدر المبالغة الحمقاء للجاهل الذي يرى بعين خياله من الجن في أطوائها ما لا تقع عليه عين بصير؟! وفيم عسى أن يفكر هذا البدوي الواقف الآن إلى جوارنا إذ يقضي الأيام وحيدا مع بعيره ثم لا يجد من يخاطبه إلا أن يلقى إنسانا مصادفة كما لقينا؟! إنه - لا ريب - يدع لهواجس خياله العنان تسعده حينا فتمد أمامه حبال الأمل، وتشقيه آخر فتضيق عليه نطاق اليأس، ثم لا يجد متنفسا ليأسه ولا لأمله إلا في مناجاة نفسه، والتحدث في خياله إلى من لا يراهم من أحبته وأعدائه، وذلك هو الشعر عند أهل البادية الأقدمين، وهو هذه المقاطيع التي سمعت منها بالطائف الشيء الكثير؛ والتي تصور النظم الشعري عند أهل هذا الجيل في شبه الجزيرة.
وأنقذ تعاوننا السيارة من ورطتها في الرمال كي تقف بعد قليل من مسيرها أمام أشجار متشابكة في الطريق، وقطع أصحابي من فروع الأشجار ما أتاح لنا المرور ثم إذا بنا نقف بعد دقائق أمام غدير لا مفر للسيارة من عبوره علها تسير بعده في طريق خلناه مستقيما، وخاض دليلنا مياه الغدير وجهل يتحسس قاعه ليرسم للسيارة المكان الذي تمر به، وبعد لأي قذفنا في الأمكنة التي أشار إليها أحجارا ترتكز عجلات السيارة عليها حين انحدارها إلى الغدير، وبذلك نجحنا في التغلب على هذه العقبة الثالثة، وانطلقنا نسير فوق أرض صلبة لقربها من الجبال، ويرى الدليل ما بي من سخط لهذه العقبات التي تصادفنا والتي كنت أعزوها لجهله الطريق، فلا يضيق ذرعا ولا يبدو عليه التأثر، بل يهون علي الأمر فيذكر أنا اجتزنا أشق الطريق ولم يبق أمامنا إلا أيسره، ونمر بين آن وآن بخيف من الخيوف وبخضرته الناضرة وشجره النامي، فيهدأ لمرأى الخضرة والماء سخطي، وأكاد أصدق الدليل وأقتنع بأن المشقة انتهت، وزاد في أملي أن طال بالسيارة المسير دون أن يقفها موج الرمال أو أن يعترضها شجر أو غدير.
وإنا لكذلك في واد بين جبلين إذا السيارة تغوص إلى بطنها ولا يبقى لها إلى حركة من سبيل، وما أدري لماذا استشطت غيظا هذه المرة، وبلغ الغيظ مني أن قلت: فلنعد إلى المسيجيد أو إلى الحمراء لنسلك طريق نقب الفار إلى ينبع حتى لا تفوتنا الباخرة بعد غد، فلما رأيت الدليل ورأيت أصحابي منهمكين في إخراج السيارة من مغرزها أمسكت عن القول وإن استمسكت بعزمي على العودة من حيث أتينا، فقد زالت الشمس ومالت إلى الغرب وما نزال نضرب في طرق لا يعلم إلا الله أيان منتهاها، وقضى القوم ما يزيد على نصف ساعة حتى أخرجوا السيارة، ثم التفت إلي الدليل في هدوئه وقال: لم يبق من الطريق إلا أقله، وبلوغ بدر أيسر من العودة إلى الحمراء وكنت قد سكن روعي، وقد حمدت للقوم ما بذلوا من جهد شاق فلم أجادل، وانطلقنا فإذا بنا بعد قليل أمام منحدر وعر لم أدرك كيف يهبط السائق بالسيارة منه، وكيف يتبعه صاحبه بالبكس، على أن حسنا لم يتردد، وكل ما طلبه أن نغادر السيارة وأن نهبط هذا المنحدر على أقدامنا مخافة أن ترتطم رءوسنا بسقف السيارة فيصيبنا من ذلك أذى، وفعلنا وهبط بعدنا والسيارة تكاد تنقلب به ظهرا لبطن، وعدنا وإياه، فإذا نحن على طريق صخري معتدل، وإذا أمامنا أشجار عالية ما لبث حسن حين رآها أن دفع بالسيارة إلى غاية سرعتها وخلفنا البكس وراءنا، فلما طال بنا السير ولم نبلغ بدرا بدأت المخاوف تعاودنا، ووقفنا مترددين عند أشجار عالية، ثم تخطينا خلالها فإذا ضيعة مطمئنة بينها، وسألنا أهلها عن بدر فقالوا: إنها منا قريب، فرجوناهم إذا ما رأوا البكس أن يهدوه السبيل، وعدنا منطلقين حتى اجتزنا منطقة الأشجار إلى البادية الجرداء، آنذاك بدا لنا عن بعد سراب لم أحسبه شيئا، ولكن الدليل أشار بإصبعه إلى ناحيته، وقال: هذه بدر.
وهدأ حسن لعل البكس يدركنا، ورميت ببصري إلى الناحية التي أشار الدليل إليها ألتمس في أطواء جوها صورة غزاة بدر من المسلمين الأولين، ورسول الله
صلى الله عليه وسلم
অজানা পৃষ্ঠা