وناجتني نفسي: لماذا يذكر الناس هؤلاء الشهداء في تقديس وإجلال وإن بعد بهم العهد وحجبهم الماضي في غيابات الدهور؟ فكلنا نذكرهم في تقديس وإجلال، وإنما يتفاوت مظهر إكبارنا إياهم بين العبادة وما هو منها بسبب من الجاهل، والإعظام الحق من المهذب النفس ذي العلم، ونحن إنما نكبرهم؛ لأنهم وهبوا أنفسهم وحياتهم للإنسانية كلها وتمنوا الموت صادقين ليبلغوا بالإنسانية أسمى الأغراض التي تصبو إليها، ولم يفكر حمزة في نفسه ولا في أبنائه يوم خاض الغمار في بدر، ويوم حاصر بني قينقاع، ويوم استشهد في أحد، ولم يرد من أحد من الناس جزاء ولا شكورا، إنما كان تفكيره في الله وجزائه، وفي نصر الله دينه الحق لتهتدي الإنسانية إلى الصراط المستقيم وتشرق روحها بنور ربها، هو إذن قد آثر إخوانه على نفسه، وحرص على الموت ليهب لهم الحياة، فوهبه إخوانه الحياة الخالدة على الأجيال جزاء وفاقا، وأية حياة باقية على الدهر كحياة المرء في قلب الإنسانية ما تعاقبت أجيالها وما نسخ الليل فيها النهار؟! وأي جزاء للمرء عن عمله أكبر من اعتراف الناس له على تعاقب الأجيال بالفضل عليهم، وما يكون له بسبب ذلك من حسن الأحدوثة فيهم! هؤلاء الذين وهبوا حياتهم في سبيل الحق لهدى إخوانهم إنما وهبوها لله ربهم؛ فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وهم ليسوا أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون.
أجل! هؤلاء حرصوا على الموت ليهبوا للناس الحياة، فوهب الله لهم الحياة، وقديما قيل: «احرص على الموت توهب لك الحياة.» وهي كلمة حق لم تتغير على القرون، ولن تتغير، وهي من سنة الله التي لا تبديل لها، فمن تمنى الموت صادقا بما قدمت يداه فاختاره الله إلى جواره فهو حي عند ربه، ومن تمنى الموت وبقي حيا ضاعف الله له أجره في هذه الحياة الدنيا، ذلك شأن الأفراد، وهو شأن الأمم؛ حياتها في أن تهب الحياة لمن بعدها وإن ضحت بحياة آخر فرد منها إذا هي أريدت على نقص في مقومات حياتها؛ في كرامتها، في عزتها، في سيادتها، في استقلالها، في حريتها التامة أن تنظم كما تشاء شئونها، والأمم التي يعرف أبناؤها كيف يموتون أعزة كراما هي الأمم التي تحيا أبدا عزيزة كريمة.
هذه الأمم التي تحيا عزيزة كريمة، والتي يعرف أبناؤها الحق والاستشهاد في سبيل الله، هي الأمم التي رفعت في الإنسانية منار الهدى وبينت لها طريق الحضارة في أسمى صورها، وذلك ما فعله خلفاء حمزة من شهداء المسلمين، وإنما آفة الإنسان أن يطغى أن رآه استغنى، هي آفة الأفراد وآفة الأمم، وكم أمة عزت وكرمت ورفعت منار الحق والعدل وهدت الإنسانية سبيلها فآمنت بها الإنسانية، وسارت في خطاها، وجزتها بذلك خير ما يجزي المعترف الشكور، ثم استغنت هذه الأمة فطغت فجزت الإنسانية بطشا واستعمارا، يومئذ يمد الله لهذه الأمة بحكم سنته في طغيانها، ثم ينالها بعد ذلك من جرائها ما ينال كل طاغية كفور.
ربنا إننا آمنا بك ما آمن بك عبدك حمزة بن عبد المطلب، ربنا فهب لنا من فضلك بعض ما وهبت له، هب لنا الإيثار على أنفسنا، وأن نحب بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات إخواننا، وأن نتمنى الموت بما قدمت أيدينا، وأدخلنا ربنا في عبادك الصالحين! ربنا اهدنا صراطك المستقيم، ربنا إنك من تهد لا يضل، وخير ما نرجو من هداك أن توجهنا وأن توجه الإنسانية بفضلك إلى الحق والخير والسلام.
أمام الحجرة النبوية
السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته! نشهد أن نبي الله ورسوله قد بلغ رسالة ربه وجاهد في سبيله حتى أتم الله النصر لدينه، وأنه وفى بوعده، وأمر ألا نعبد إلا الله وحده لا شريك له.
وقفت أمام الحجرة النبوية وتلوت هذه التحية يوم دخلت المدينة، وذهبت مع مضيفي إلى المسجد وتبعت مزوري من باب السلام إلى حيث وقفت مأخوذا لا أدري ما الله صانع بي، وسلمت على الصديق أبي بكر وعلى الفاروق عمر المدفونين في هذه الحجرة إلى جوار رسول الله، وتلوت الفاتحة، ثم أقمت مكاني شاخصا إلى الحجرة وإلى عمدها النحاسية الدقيقة الصنع، وإلى النسيج الأصفر الذي يصل بين هذه العمد، وإلى الطاقات الثلاث المفتوحة فيها إزاء القبور الثلاثة، كأنما كل طاقة منها عين تحدق في كل زائر وتنفذ إلى أعماق نفسه وطيات قلبه، أقمت مكاني مأخوذ الذهن عن التفكير، متوجها بكل انتباهي إلى كل ما يجب أن أقوم به من الشعائر حذر أن يفوتني شيء منها، وكأنني في حضرة ملك أؤدي فروض الإكبار والإجلال، وشعرت بنفسي تحيط بها هالة من الجلال الروحي الذي أخذ على تفكيري المسالك وجعلني في حيرة ما أصنع، وكذلك بقيت حتى تقدمني مزوري إلى ناحية الروضة النبوية لأؤدي فيها تحية الحرم وأصلي وراء الإمام صلاة المغرب.
وعجبت حين غادرت موقفي من الحجرة وأتممت صلاتي بالروضة، لقد امتلأت روحي إكبارا وتقديسا وإجلالا، ولقد شعرت بما لم أشعر قط من قبل به، لكني لم أبك ولم تفض عبراتي، وكنت قد سألت قبيل سفري من مصر إلى الحجاز بعض من سبقوني إلى الحج والزيارة عن موقفهم أمام قبر الرسول، فحدثني بعضهم عن اهتزاز أنفسهم وانهمار الدمع من أعينهم، ولم يأبوا أن يذكروا أنهم كانوا أشد تأثرا حين وقوفهم أمام الحجرة منهم حين وقوفهم أمام الكعبة وحين طوافهم بها، وهؤلاء الذين حدثوني هم من خير من أعرف ثقافة وأكثرهم بعدا عن الغلو في الدين أو التزمت فيه، ما لي إذن لم تنهمل عبراتي كما انهملت عبراتهم، ولم يزد تأثري أمام قبر الرسول عن تأثري أمام بيت الله، وما أحسبني دون أحد منهم إيمانا بالله وتصديقا لرسوله
صلى الله عليه وسلم
وحبا إياه؟! أتراهم أرهف مني حسا وأدق شعورا، أم أنا نختلف رأيا وتفكيرا؟ ولم أطل تقليب النظر في هذه الأمور بادئ الرأي، وكفاني أن ذكرت أني توجهت إلى الله بالحج مخلصا، فلي في مغفرته ذنوبي أعظم الرجاء، وأنني جئت ألتمس بزيارة نبيه الكريم الذكر والأسوة مزيدا في الرجاء أن يهديني الله سبيله الذي دعا إليه محمد عبده ورسوله، هذا إلى أنني خلقت عصي الدمع لا تسعفني العبرات ما تسعف غيري، فإن أوشكت ضننت بها ضنا بكرامتي وإبائي، وما أدري لعلي كذلك خشيت أن يكون في البكاء مظهر عبادة، وقد قال - عليه السلام: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد.» وإنما تفيض دموع المؤمن من خشية الله.
অজানা পৃষ্ঠা