ومع تسوية قبور البقيع بالأرض اليوم وعدم إعلامها إلا بهذه الأحجار الموضوعة حولها، لقد شعرت إذ وقفت أمام بعضها بهزة نفسية كأنما بيني وبين ساكنيها أقرب الأواصر، وكأنهم دفنوا لأمسهم ولما تجف العبرة عليهم، من هذه القبور قبر إبراهيم ابن الرسول - عليه الصلاة والسلام، فلقد وقفت لديه وأطلت الوقوف، وذكرت عنده هذه الفترة الوجيزة من حياة محمد مذ ولد هذا الطفل إلى أن مات ولما تنتصف السنة الثانية من عمره، كان الله قد فتح أم القرى مثابة بيته العتيق على المسلمين، وقد أمنهم جانب الروم، وكان النبي قد جاوز الستين بعد أن اطمأن إلى نصر الله إياه، تفد عليه القبائل من أنحاء الجزيرة كلها تعلن إليه إسلامها وتستظل بلوائه الروحي وبأخوة المؤمنين.
كان إلى ذلك قد فقد أبناءه وبناته فلم يبق له منهم إلا فاطمة ، وقد أقام عشر سنوات بعد وفاة خديجة وبعد زواجه من عائشة وسائر أمهات المؤمنين لا يعقب، فلما ولدت له مارية القبطية المصرية إبراهيم فاضت بالمسرة نفسه، ووجد في هذا الطفل أنس قلبه وزينة حياته، فجعل يمر كل يوم بدار أمه يمتع بابتسامة الطفل البريئة الطاهرة، ويغذي بضمه إلى صدره شعوره الإنساني الذي بلغ من السمو أن شمل الناس جميعا، وهو يجد مع ذلك في توفره على هذا الطفل نعيما وغبطة، وتأخذ الغيرة أمهات المؤمنين لهذا الحب الذي رفع أم إبراهيم عن مقام السراري إلى مقام الزوجات، فيأتمرن بالنبي ويخرج بهن الغضب إلى ما لم يعودنه، فلا يصرفه ذلك عن الطفل، بل يزداد به تعلقا كلما ازداد نموا، وكلما رأى في ابتسامته وفي ضحكته ما تسعد به أبوته وتستريح له نفسه من عملها العظيم المضني.
ويترعرع الطفل وينمو ويزداد شبهه بمحمد وضوحا فيزداد له حبا وبه تعلقا ويرمقه من العطف بما لا عطف بعده، وإنه لكذلك إذ مرض الطفل وأسرع فيه المرض، فذبلت نضارته وذهب لونه، ولم ينفعه تمريض أمه، ولم يبعث عطف أبيه إلى جسمه النحيل الشفاء، ويشتد الألم بمحمد لما يرى من حاله، ويبلغ منه الألم أن يأخذ بيد عبد الرحمن بن عوف يعتمد عليه في مسيرته من المدينة إلى النخل بجوار العالية من ضواحي المدينة حيث تقيم مارية تمرض ابنها، وتعينها أختها سيرين في تمريضه، وتواسيها في بأسائها، ويرى النبي الطفل في حجر أمه [يجود] بنفسه، فيملأ الألم قلبه وتندى بالدمع عينه، ويجلس إلى جوار مارية الملهوفة وهو أشد ما يكون وجلا وخوفا وجزعا، ويأخذ الطفل إلى حجره وينظر إليه بعينين ملئتا ألما ويقول: «إنا يا إبراهيم لا نغني عنك من الله شيئا!» فتصيح الأم وتصيح أختها والطفل في غيبوبة الموت لا يوقظه صريخ أمه ولا تنبهه الدموع الحارة المنهلة من مآقي أبيه!
ويقبض هذا الروح البريء وينطفئ بموته أمل تفتحت له نفس النبي زمنا، فتزداد عيناه تهتانا ويأخذ منه الحزن كل مأخذ، ويقول والجثة الصغيرة الهامدة ما تزال في حجره: «يا إبراهيم، لولا أنه أمر حق، ووعد صدق، وأن آخرنا سيلحق بأولنا، لحزنا عليك بأشد من هذا.» ثم تخنقه العبرة فلا يستطيع أن يتابع القول فيعلوه الوجوم وقد ارتسم الحزن على قسمات محياه في أبلغ صورة للهفة اللاذعة العميقة، ويشعر بأنه مفارق هذه الفلذة من كبده فيهز رأسه ويقول: «تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا يا إبراهيم عليك محزونون.»
ويحس محمد ما به من جوى الحزن وما يلفحه من حرقته، ويقدر بما بمارية وأختها منه، فتأخذه الرأفة بهما، فيكفكف من دمعه ويتوجه إليهما يريد تعزيتهما فيذكر لهما إن له لمرضعا في الجنة، ويقوم ومعه عمه العباس وطائفة من المسلمين يشيعون إبراهيم بعدما غسلوه وحملوه على سرير صغير، ها هم أولاء قد جاءوا به إلى هنا ووقفوا به حيث أقف، ولعله
صلى الله عليه وسلم
كان واقفا مكاني حين صلى عليه، وحين سوى على قبره بيده بعد دفنه، وحين رش الماء على القبر وأعلم عليه بعلامة وقال: «إنها لا تضر ولا تنفع، ولكنها تقر عين الحي، وإن العبد إذا عمل عملا أحب الله أن يتقنه.»
وحدثتني نفسي وأنا بموقفي: كيف يبلغ الحزن من محمد هذا المبلغ وقد حمل في الحياة ما ينوء به من لم يؤته الله من فضله ما آتى نبيه ورسوله، وقد حمله قويا صابرا مستهينا بالأذى والموت؟! وذكرت إذ ذاك أنه
صلى الله عليه وسلم
بشر مثلنا، وأن لنا فيه الأسوة والمثل، وأنه في حزنه على إبراهيم قد كان الأبوة البرة والعاطفة السامية التي ركبها الله في الناس إبقاء على الحياة وصورة لوحدتها المتنقلة على الأجيال، وهل في الحياة كعاطفة الأبوة البرة نعمة وسعادة وزينة؟! وهذه العاطفة التي نسعد بها هي التي تبعث إلى قلوبنا حب الغير، وتخفف من أثرتنا وتعلمنا الإيثار وتدعونا إليه، وهي التي تدفعنا بذلك إلى السعي في الحياة ابتغاء الرزق لبنينا ومن يلوذ بنا وابتغاء الخير بعد ذلك للناس جميعا، ولولا هذه العاطفة لقضت الأثرة على الحياة ولأسرع الفساد إلى الكون.
অজানা পৃষ্ঠা