ومن عجب أن الذين ظلوا مقيمين بالمدينة من أهلها لم يفيدوا من هذه الشدة عبرة ولم يذروا ما ألفوا من الاعتماد على الصدقات وما ينفقه الزائرون لقبر النبي، ولم يفكر أحد منهم في أن ينزع بها منزع الاعتماد على مواردها الذاتية، ولقد رأيت ذلك بنفسي حين نزلت إليها وجست خلال أزقتها الضيقة وسرت في أسواقها أشهد حوانيتها الصغيرة فلم أر فيها تجارة غير ما يحتاج إليه زوارها، وأعجب من ذلك أن هذه التجارة مجلوبة كلها من الخارج، فأما ما تنبته المدينة فليس يتجر منه في غير البلح الكثير الأصناف، الذي يبتاعه الناس تبركا أكثر مما يبتاعونه لجودته، هذا على أن أصنافه الجيدة كثيرة وصالحة للتجارة كل الصلاح، لكن أهل المدينة لم يعن منهم أحد بأمر هذه الأصناف وحسن تهيئتها للتصدير، لا من حيث اختيارها، ولا من حيث عرضها في علب أو صناديق تسترعي النظر، ولا من حيث الإعلان عنها، ولا من حيث نقلها للتجارة في بلد آخر.
وليس يسترعي النظر في أسواق المدينة شيء يقف الإنسان عنده، ولولا التبرك وما له على النفوس من سلطان لما عاد إليها من مر بالأزقة الضيقة التي تحويها، فهذه الأزقة أكثر ضيقا من مثلها في أصغر القرى بأرياف مصر، وهي مكتظة أثناء موسم الزيارة على نحو يدعو إلى الفرار منها حذر الاختناق بها، ولقد شقت بعض شوارع فسيحة في المدينة أثناء الحرب، لكنها ليست مقصودة كتلك الأزقة، ولعل الناس لا يرون فيها ما بالأزقة من بركة، أم لعل الحوانيت بها أعلى أجرا وأهل المدينة أحرص على ألا يبسطوا أيديهم كل البسط في هذه السنين التي أصابت المجاعة فيها بلدهم المقدس غير مرة، وقد يفسر ذلك بعضهم هذه الظاهرة من التمسك بالأزقة والإقامة بها بقربها من المسجد النبوي قربا يحرص كل على أن يبلغ منه غاية ما يستطيع.
وضيق الأزقة بالمدينة مضرب للمثل، فما يكاد يضاهيه مما بمكة شيء على ما أسلفنا من ضيق طرقها، فمن أزقة المدينة ما لا يتسع لأكثر من اثنين يسيران جنبا إلى جنب، فإذا لقيهما غيرهما لم يكن بد من أن ينتحي أحدهما وأن يسير وراء صاحبه ليفسح للعابر بها سبيلا، وهذا على سعة رقعة الأرض فيما حول المدينة سعة تطوع لعشرات الألوف حين الرخاء أن يشيدوا المباني بها، لكنما ألف الناس من أهل المدينة هذا النوع من العيش في الأزقة الضيقة، فإذا عضت سنو الشدة بلدهم وغادرها من ليس أصيلا بها ظل أبناؤها في الدائرة المحيطة بالمسجد، لا يفكر أحد منهم فيما يفكر أهل هذا العصر فيه من توسيع الطرق لتهوية البلد كفالة لصحة أبنائه.
تهامة والحجاز.
يذكر لبيب بك البتانوني في رحلته الحجازية من أسماء أزقة المدينة: زقاق البقر، وزقاق الخياطين، وزقاق الحبس، وزقاق عنقيني، وزقاق السماهيدي، وزقاق البدور، وزقاق الأغوات، وزقاق ياهو، وزقاق الكبريت، وزقاق القماشين، وزقاق الحجامين، وزقاق مالك بن أنس، ثم يقول: «وعلى كل حال فحارات المدينة نظيفة، وضيقها يساعد كثيرا على تلطيف الحرارة فيها زمن الصيف كما هو الشأن في أغلب بلاد الشرق، وسوق المدينة يبتدئ من الباب المصري إلى الحرم الشريف في شارع ضيق طوله خمسمائة متر تقريبا، يقطعه على المارة تقابل جملين فيه مع بعضهما، والحركة فيه تكاد تنحصر في مدة الحج والموسم الرجبي، وهو موسم الزيارة الرسمية في بلاد العرب.» هذا ما كتبه لبيب بك من أكثر من ربع قرن تغير فيه وجه العالم بالحرب وحلول السيارة محل الجمل وبتنظيم الطيران وبتغيير نظام المدن، مع ذلك بقيت المدينة لم يتغير فيها شيء، وبقي سوق المدينة على ضيقه من أكثر أزقة المدينة سعة ونشاطا، وبقي نشاطه ونشاط المدينة كلها محصورا في مدة الحج، أما الموسم الرجبي فلم يبق في مثل نشاطه الأول.
ولقد أعانت عوامل كثيرة على بقاء الحال في المدينة لم يصبها تطور خلا حلول السيارة محل الجمل بمقدار ما حدث في بلاد العرب كلها، على حين أصابها أذى وشر كثير، من هذه العوامل ما حدث أثناء الحرب وبعدها من قلق واضطراب في هذا البلد المقدس زاد على مثله في سائر بلاد العرب، بدأ ذلك حين انتقض الشريف حسين على الأتراك واتفق مع إنجلترا على استقلال العرب، إذ ذاك تحصن الأتراك بالمدينة واتخذوا قلاعها ملاذهم، فلما رأوا الأمر وشيكا أن يخرج من أيديهم أخذ فخري باشا خير ما فيها من نفائس فبعث بها إلى الآستانة؛ أخذ الجواهر التي بالحجرة النبوية، وأخذ أنفس ما في مكتبات المدينة من المخطوطات والكتب النادرة، وتركها للأشراف يحتلونها مجردة من هذه المفاخر التي كانت لها، والتي كانت ذات أثر عظيم في توجه العالم الإسلامي إليها.
ولئن لم يكن هذا الأثر شيئا مذكورا إلى جانب المسجد النبوي وقبر الرسول فيه، لقد كان للكوكب الدري ولهذه النفائس المتصلة بالحجرة، وكان لكتب السلف المحفوظة بمكتبات المدينة سلطان على النفوس لا سبيل إلى إنكاره، فلما استقر الأمر للأشراف في الحجاز بدءوا يفكرون في الإصلاح، لكنهم لم يلبثوا أن دهمتهم الحرب السعودية التي أصابت المدينة بمثل ما أصابتها ثورة النهضة، بل بشر مما أصابها به، كانت المدينة من ناحية العمارة الأثرية متحفا نفيسا بالغا غاية الجمال، كانت القباب المقامة على قبور أمهات المؤمنين وعلى قبور الصحابة بالبقيع بعض ما يشهد لفن العمارة الإسلامية بسبق يغبطه عليه أكثر الناس تقدما في العمارة، حتى لقد كان الأتراك يطلقون على هذه المجموعة البديعة في فن المعمار اسم «جنة البقيع»، وكان على قبر سيد الشهداء حمزة عم الرسول مسجد وقبة تهوي إليهما النفوس، ويفاخر بهما الفن، وكان ثمة من هذه العمارة الفنية كثير كان يشغل الناس عن ضيق الأزقة بالمدينة وعن كثير مما لا يجاري العصر فيها، فجاء الوهابيون من أشياع ابن السعود على هذه الآثار الفنية هدما وتحطيما؛ لأنها لا تتفق مع عقيدتهم الإسلامية من وجوب تسوية القبور بالأرض، ومن تحريم التبرك بالقبور وقبابها، أو اتخاذ أصحابها إلى الله شفعاء وزلفى؛ ففي ذلك إشراك بالله لا يقره التوحيد ولا يرضاه الإسلام في رأيهم.
وقف أهل المدينة إزاء هاتين الحركتين؛ حركة الأتراك، وحركة الوهابيين، مشدوهين حيارى لا يعرفون ما يصنعون، أنى لهم أن يعرفوا مدينتهم تضمحل مذ عطلت الحرب مواصلاتها مع الشام، والرخاء يزايلهم بانقطاع الزيارة أثناء الحرب وبعدها، وأحوالهم تنحدر سراعا إلى أسوأ ما يتصور الإنسان! لا عجب إذن أن تقف المدينة دون التطور الذي أعقب الحرب في العالم كله، وأن يكون بقاؤها حتى اليوم عامرة بمن ظلوا مقيمين بها رغم القحط والمجاعة وسوء الحال معجزة من المعجزات لا يفسرها إلا ما يملأ قلوب هؤلاء الناس من إيمان بالرسول ورسالته وإعزاز لقبره، وحرص شديد على المقام في جواره.
لأهل المدينة العذر وهذا ما نزل ببلدهم إذا هم لم يجاروا تطور العالم بعد الحرب، لكن من الواجب ألا ننسى عوامل أخرى كانت في هذه الأحوال وفيما سبقتها سببا في وقوف المدينة دون مجاراة العالم في تطوره، وفي مقدمة هذه العوامل روح الاعتماد على الغير باسم التوكل على الله، وروح الإذعان باسم الإسلام لقضاء الله، فقد بقيت المدينة تعتمد - وقد زالت عنها صفة العاصمة للمملكة الإسلامية - على حسن توجه الملوك والأمراء إليها بسبب مكانتها الدينية لوجود القبر النبوي بها أكثر من اعتمادها على جهود أبنائها وحسن سعيهم لخيرها، وترى فيما يبذله المسلمون في مختلف بقاع الأرض لها من هبات وأوقاف مصدر حياتها ورزقها، وليتها استعانت بذلك على تنمية مواردها أو المزيد من جمالها أو حسن تنظيمها، بل أمسك الجهل أهلها دون القيام بشيء من ذلك كله، وحبسهم في حدود هذه المعونة الواردة إليهم من غير أن يكون لهم أي فضل في الإبقاء عليها، بله المزيد فيها.
من الظلم أن نلقي التبعة عن هذه الحال على أهل المدينة وحدهم، ولعل الحظ الأوفى منها يقع على أولي الأمر في عواصم الإسلام ممن كان لهم على المدينة الحكم والسلطان، هؤلاء حرصوا على أن يظل أهل المدينة في غيابات الجهل حتى لا يكون لهم من العلم قوة تضاعف بأسهم بمجاورتهم قبر الرسول، فلو أنهم تعلموا وعلموا الحق الذي جاء محمدا من ربه مبرأ من كل شائبة لكان لهم شأن غير شأنهم منذ انحل سلطان العاصمة عن مدينتهم، إذن لعلموا أن الإسلام لله والتوكل عليه أول شرائطهما السعي وبذل غاية الجهد لدرك الغاية التي يجعلها الإنسان هدف حياته، ولأيقنوا أن الله في عون العبد ما دام العبد في عون نفسه وفي عون أخيه، ولأدركوا أن هذه الحياة الدنيا فترة هيأها القدر ليقوم المرء فيها بواجبه لنفسه ولإخوانه، فإن هو قصر في أداء هذا الواجب فقد قصر في أداء حق الله ولم يبلغ الحظ الذي يتيح له الرضا في الحياة، لكنهم إن أدركوا هذا وآمنوا به أصبح حكم الاستبداد إياهم محالا؛ لذلك حجب الحكام المستبدون عنهم نور العلم وغشوا دونهم ضياءه.
অজানা পৃষ্ঠা