أزمة القيم في عصر الانطلاق
لا أريد أن هنالك أزمة قائمة بالفعل بين جديد القيم وقديمها، لكني أريد أزمة نقيمها ونخلقها خلقا، فليس أهون على الإنسان من أن يحيا في عالمين: فعالم خارجي عام يضطرب فيه مع الناس في أوجه النشاط والعمل، يحكمه في التعامل معهم مجموعة من القوانين واللوائح، وعالم داخلي خاص يعيش فيه مع أهله وخلصائه، تضبطه معهم مجموعة من المعايير، قد تتفق وقد لا تتفق مع معايير العالم الخارجي حيث سائر المواطنين الذين لا تربطه بهم صلة القربى القريبة أو الصداقة الحميمة، فإذا كان مما يجوز له هنا أن ينفض نفسه نفضا بحيث يمدح ما يمدحه عن صدق ويذم ما يذمه عن صدق، فلا يجوز له هناك أن يمدح أو يذم إلا ما يريده له الناس من مدح وذم، وإذا كانت علاقته هنا مع أفراد أسرته ومع أصدقائه هي أن يقف الواحد منهم إلى جانب الآخرين في صف واحد، أقدامهم كلهم دائسة على الأرض، ورءوسهم كلهم معتدلة القامة لا تنحني تحت حمل يثقلها من أعلى، فعلاقته هناك مع سائر المواطنين في المكتب والمصنع والشركة والمصرف، بل وفي الملعب وفي الطريق هي أن يقفوا في عمود رأسي، الواحد منهم على أكتاف من دونه، وإذا كان مما لا يجوز له هنا أن يسرق الوقت والجهد والمال من سواه، فتلك كلها أمور جائزة له هناك، لا يمنعه من أدائها إلا خشية العقاب.
نعم، ليس أهون على الإنسان من أن يعيش في عالمين، لكل عالم منهما قواعده وقوانينه، ويغلب أن تكون القواعد والقوانين التي تضبط السلوك في العالم الخارجي العام هي تشريعات مسنونة من صاحب السلطان، وأن تكون القواعد والقوانين التي تضبط السلوك في العالم الداخلي الخاص هي مواضعات خلقية وعرف وتقليد، ويغلب كذلك أن تكون للأولى من ألوان العقاب المقررة ما يردع الناس عن مجاوزة الحدود المشروعة، وألا يكون للثانية من ألوان العقاب إلا لذعات الضمائر واستهجان الآخرين، وإنه لمن المألوف لهذا الازدواج أن يكون هو الحالة الطبيعية التي لا تثير دهشة عند أحد (إلا أن يكون من المشتغلين بفلسفة الأخلاق) في العلاقات بين أمة وأمة أخرى، كأنما ليس ثمة من ضير على الإنسان أن يعامل مواطنيه على نحو، وأن يعامل أبناء البلاد الأخرى على نحو آخر، فالفعل الواحد المعين يفعله في بلده فيكون خيانة كبرى يستحق عليها الإعدام، والفعل نفسه يفعله في بلد آخر فيستحق به من مواطنيه أوسمة التقدير ... أقول إنه من المألوف لهذا الازدواج في القيم أن يكون هو الحالة الطبيعية بين أفراد أمة مع أفراد أمة أخرى، لكنه لا يكون هو الحالة الطبيعية بين أبناء الأمة الواحدة إلا إذا كان في الأمر جانب خبيء يحتاج لأن يكشف عنه الغطاء لتقع عليه الأبصار في ضوء النهار، وكشف الغطاء عما في أنفسنا من ازدواج في القيم، من شأنه أن يحدث الأزمة التي أشرت إليها في أول المقال.
وأهم ما يحدث ازدواجا في القيم بين أبناء الأمة الواحدة، هو أن تكون تلك الأمة في مرحلة انتقالية من مراحل نموها وتطورها، والمعلوم في مثل هذه الحالة أنه وإن تكن أسس التعامل بين الناس منبثقة آخر الأمر من شبكة العلاقات الاقتصادية، فإذا تغيرت هذه العلاقات كان التغير في أسس التعامل كلها لاحقا ضرورة وحتما، إلا أن التغير المادي الاقتصادي أسرع دائما من نتائجه الخلقية، حتى لكثيرا ما يحدث أن يجيء التغير الخلقي بعد أسبابه من التغيرات الاقتصادية بسنوات طوال، بل إنه قد لا يجيء، ويظل الإنسان في حالة قلقة بين ما يكسب به العيش في عالمه الخارجي وبين ما يدخل الطمأنينة والسكينة على نفسه في عالمه الداخلي، لقد سارت الإنسانية في تطورها من اقتصاد الرعي إلى اقتصاد الزراعة، ومن هذا إلى اقتصاد الصناعة، وكان لها في كل طور من هذه الأطوار أخلاق تلائم المحيط الاقتصادي، لكن ما أكثر ما تخلف في كل مرحلة من أخلاق المرحلة السابقة عليها؛ ففي مجتمعنا الزراعي هنا في مصر، كانت تسود - إلى جانب ما تقتضيه حياة الزراعة من أخلاقيات - بقايا من مجتمع البداوة الرعوية احتفظ بها العرب من عهد بداوتهم ونقلوها إلى المجتمعات التي كانت قد استقرت في زراعتها أمدا طويلا، وها نحن أولاء في حالة انتقال من طور الزراعة إلى طور الصناعة، لكننا ما زلنا مثقلين بأخلاقيات المجتمع الزراعي جنبا إلى جنب مع ما تدعو إليه الحياة الجديدة - بعلمها وصناعتها - من أخلاقيات جديدة.
لقد استقرأ «روستو» في كتابه «مراحل النمو الاقتصادي» مراحل السير التي اجتازتها البلاد - على اختلاف مكانها وزمانها - في تطورها الاقتصادي بما يستتبع ذلك من تطور اجتماعي وثقافي وسياسي، فوجدها خمس مراحل، هي: المرحلة التقليدية، تتلوها مرحلة التحول، ثم مرحلة الانطلاق، وهذه تتلوها مرحلة النضج، وأخيرا تجيء مرحلة الرفاهية على المستوى الحضاري الرفيع.
في المرحلة التقليدية الأولى، تكون أوضاع الحياة محددة ضيقة المجال، لكل شيء قيوده من التقاليد والعرف، ولكل حركة طريقها المرسوم، حتى لا يجوز للسائر أن يمشي بأسرع ولا بأبطأ مما ينبغي، ولا للضاحك أن يضحك بصوت أعلى مما يجب، العمل الرئيسي في هذه المرحلة زراعة، والسلطان الحقيقي في أيدي ملاك الأرض، وصالح الأسرة في هذه المرحلة فوق صالح الأمة، ولكل أسرة مستواها الطبقي، فلا يؤذن لأبنائها أن يشرئبوا بأعناقهم إلى ما هو أعلى ... ثم تسري أشعة العلم في جسم الحياة - إما قليلا قليلا أو دفعة سريعة - فيتبع العلم صناعة تشغل بعض الأيدي عن فلاحة الأرض، وتجعل المدينة مركز القوة دون الريف وقراه، بل إن حركة التصنيع لتمس الزراعة نفسها، فإذا الحقل بمكانته وجراراته كأنه مصنع، وإذا القرية كأنها مدينة صغيرة، وتلك هي معالم المرحلة الثانية: مرحلة التحول.
حتى إذا ما كملت عملية التحول، واستكمل المجتمع خلالها ملامح وجهه الجديد، دخل في مرحلة الانطلاق، وفيها تتجدد خلاياه كلها لتلائم الحياة العلمية الصناعية الحضرية الجديدة، فتتغير العلاقات الإنسانية بأسرها، وتتغير الحقوق والواجبات، تتغير قيمة العمل بالسواعد بالنسبة إلى أصحاب الفراغ، وتتغير مهمة الحاكم بالنسبة إلى المحكوم، وتتغير العلاقة بين الرجل والمرأة، بين أهل الريف وأهل الحضر ... يتغير كل شيء في مرحلة الانطلاق لتندفع الملامح الجديدة التي نشأت في مرحلة التحول، حتى تبلغ مداها، وهذه هي المرحلة التي نقف اليوم على مشارفها، لنجتازها في عدد من السنين يكثر أو يقل بحسب دوافع التطور، ثم لننتهي منها إلى المرحلتين الأخيرتين: مرحلة النضج ومرحلة الرفاهية على مستوى حضاري رفيع.
وأوضح ما يلفت أنظارنا في مرحلة الانطلاق هذه، ازدواج القيم التي نعيش على هداها: فقيم تخلفت من المرحلة الأولى (مرحلة العرف والتقليد) وصمدت عبر المرحلة الثانية (مرحلة التحول) وقيم تقتضيها حياة العلم والصناعة: في الأولى تكون الأولوية لمن يملك على من لا يملك، وفي الثانية تكون لمن يعمل على من لا يعمل؛ في الأولى تواكل واستسلام للقدر، وفي الثانية اعتداد بحرية إرادة الإنسان، وتسليم بنتائج العلم؛ في الأولى تغليب للوجدان على منطق العقل، وفي الثانية تغليب للعقل على مشاعر الوجدان؛ في الأولى تشويه للماضي بالتهويل والخرافة، ثم الاحتماء بهذه الصورة المشوهة والتمسك بها لذاتها، وفي الثانية تنقية للماضي ليكون في أيدينا سلاحا للحاضر وعدة للمستقبل؛ في الأولى شخصية ضائعة هضيمة لمن يلتهمها، وفي الثانية تثبيت للشخصية واعتزاز بها في غير صلف أعمى؛ في الأولى قبول للواقع كما يقع لأنه من صنع القدر، وفي الثانية تغيير للواقع عما وقع لأنه من صنع أيدينا.
أقول إن أول ما يلفت أنظارنا، ونحن على مشارف المرحلة الثالثة من مراحل السير: مرحلة الانطلاق، ازدواج القيم، فنحن مشدودون اليوم بين قديم وجديد ، نعمل بأجسادنا على نحو، ونفكر بعقولنا ونحس بقلوبنا على نحو آخر، كمن يعزف على القيثارة لحنا لكنه يغني لحنا آخر، نعم إنها سنة الحياة أن يبطئ التغير الخلقي بحيث لا يلحق بالتغير المادي إلا بعد أمد قد يطول، فواجبنا أن نستحث الخطى لنسرع نحو التئام الفجوة بين خارج الإنسان وداخله.
وحتى لا يكون حديثنا على مستوى التجريد والتعميم، ندعمه بأمثلة مجسدة معينة مما وقع لنا في خبراتنا الحية، أمثلة تبين أننا نقول بألسنتنا ما لا نحس صدقه بقلوبنا، إذ نردد بالألسنة معايير المرحلة الجديدة من مراحل حياتنا، لكننا ما زلنا معلقين في قلوبنا بمعايير أخرى ذهب زمانها:
অজানা পৃষ্ঠা