العلم علم بشيء، ولا يتم لك مثل هذا العلم إلا إذا ألممت بذلك الشيء حلا وتركيبا، ومن ثم تصبح لديك القدرة على التصرف فيه تصرفا تخدم به أغراضك؛ ولذلك قيل إن «العلم قوة» أعني أن العلم «قدرة»، قدرة على تغيير جزء من العالم الخارجي - جزء كبير أو جزء صغير - تغييرا يصيره بيئة صالحة لحياة أفضل، قدرة على أن أجعل من الماء مصدرا للري ولتوليد الكهرباء وتسيير السفن، وعلى أن أجعل من الهواء أجنحة للطيران، وأسلاكا تنقل الصوت والصورة من مكان إلى مكان، ليس العلم حالة بكماء خرساء، نقف بها إزاء الدنيا متفرجين لما يحدث، دون أن نغير بها تيار الحوادث ونوجهه كيفما نشاء، فما لم يكن العلم «قوة» أو «قدرة» على إخصاب الأرض، وإزالة المرض، وتنقية الماء والهواء، وتيسير الانتقال، وغير ذلك من إقامة جوانب الحياة، فماذا يكون؟
هذا ما أذهب إليه في فلسفة المعرفة بصفة عامة، حتى لأرفض «التأمل» بالمعنى الذي يركز المفكر به فكره في لا شيء - وأعني لا «شيء» بالمعنى الحرفي لكلمة شيء - فكل علم متعلق ب «شيء»، ب «ظاهرة»، ب «مشكلة» بموقف من مواقف الحياة، لنبقيه على حاله إذا كان صالحا لأغراضنا، أو لنغيره بما يخدم تلك الأغراض، وإذن فعندي أن المثقف لا يتم تكوينه إلا بأن يكون مثقفا يستخدم ثقافته في حياته، على أن أصحاب الثقافة يعودون بعد ذلك فيتفاوتون، فمنهم من يقصر استخدام ثقافته على حياته الخاصة، ومنهم من يتأرق وكأنه يرقد على شوك، ما لم يستخدم تلك الثقافة في رقعة أوسع من حياته الخاصة، رقعة قد تمتد حتى تشمل الوطن، وقد تمعن في الامتداد لتشمل الإنسانية كلها، فعندئذ يكون مثل هذا الرجل أجدر الناس بصفة «المثقف الثوري».
ضوء على معنى الصراع الفكري
لا تكون الفكرة - كائنة ما كانت - إلا جوابا عن سؤال، إذ إنها لا تكون فكرة - بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة - إلا إذا جاءت حلا مقترحا لمشكلة قائمة، والمشكلة المعينة هي بمثابة سؤال مطروح ينتظر الجواب، سواء صيغ هذا السؤال صياغة معلنة صريحة، أم ظل مضمرا في ذهن صاحبه، فإذا قلت - مثلا - إن الحرية حق فطري للإنسان، كان ذلك إجابة عن سؤال يسأل: ما هو مصدر الحرية التي يتمتع بها الإنسان؟ أو قلت: إن الشمس هي التي تعكس ضوءها على سطح القمر، كان ذلك إجابة عن سؤال يسأل: من أين يأتي الضوء إلى القمر مع أنه بطبيعته جسم معتم؟ وهكذا، وقديما بحث الفلاسفة في صنوف الأسئلة التي يمكن أن تسأل عن الشيء الواحد، وأطلقوا مصطلحا خاصا هو كلمة «المقولات»، ويذكر أرسطو من هذه المقولات عشرا، وهو بذلك يعني أنك تستطيع أن تسأل عن الشيء الواحد عشرة أنواع من الأسئلة، فقد تسأل عن جوهره بقولك: ما هذا؟ أو عن كميته بقولك: ما لونه وما طعمه؟ إلى آخر الأسئلة العشرة التي ذكرها أرسطو منذ قديم.
وواضح أن لكل ضرب من ضروب السؤال لغة خاصة يجاب بها عنه، غير اللغة التي يجاب بها عن غيره من الأسئلة، فإذا سألتك عن طول الجدار، توقعت منك أن تستخدم لغة العدد لا لغة الألوان والطعوم، وإذا سألتك عن مكان شيء أو عن زمانه، كان لكل حالة لغتها الخاصة، هذا واضح، أما الذي يحتاج إلى توضيح فهو أن «الصراع الفكري» بين رجلين أو جيلين من الناس، لا يكون إلا إذا ألقى عن شيء معين سؤال معين، فأجاب كل من الرجلين إجابة غير التي أجاب بها الآخر، كأن تسأل: ما مصدر الحرية التي يتمتع بها الإنسان؟ فيجيب أحد الرجلين بأنها فطرية تولد مع الإنسان، ويجيب الآخر بأنها حق تمنحه له إحدى السلطات - في مثل هذه الحالة وحدها يكون الحكم بالصواب على إحدى الإجابتين، مؤديا حتما إلى الحكم بالخطأ على الإجابة الأخرى.
لكن هذه الحالة هي واحدة من أربع حالات ممكنة الحدوث، ومن ثم يجيء الخلط ويقع الخطأ، فهنالك حالة يطرح فيها سؤال معين، فإذا برجلين يجيبان عنه إجابتين مختلفتين، كل منهما صادق إلى حد، باطل إلى حد، أي أن كلا منهما صواب بعض الصواب لا كله، وعندئذ يكون الجانب الذي أصاب فيه الأول ليس هو نفسه الجانب الذي أخطأ فيه الثاني، فها هنا لا يكون بين الفكرتين «صراع» لأننا قد نجمع الصوابين معا، ونبعد الباطلين معا، أي أن الإجابتين يمكن أن يتكاملا وأن يتعاونا على تكوين الإجابة الصحيحة، خذ لذلك مثلا ما نشب - وما يزال ناشبا - بيننا من خلاف في الرأي: هل نترجم العلوم - كالطب - إلى العربية أو لا نترجمها؟ قد يجاب عن هذا السؤال بإجابتين متطرفتين، إحداهما تطالب بالترجمة العربية ترجمة كاملة تشتمل على كل ما يرد في العلوم من عبارة ومن مصطلح، محتجة بأنه لا حياة للغة القومية إلا إذا حملت علوم عصرها ... والأخرى تطالب بألا ترجمة في هذا المجال، وبوجوب أن تدرس العلوم في لغة أجنبية - كالإنجليزية مثلا - هاتان إجابتان مختلفتان عن سؤال واحد، لكن الصواب في أي منهما قد لا يكون صوابا كاملا، والخطأ في الأخرى قد يكون خطأ كاملا، بحيث يجوز أن يكون الموقف الأصح هو الجمع بين جانب من هنا وجانب من هناك، كأن نقول - مثلا - إننا نترجم من المصطلح ما نجد له ترجمة عربية وافية، ثم نعرب ما يستعصي على الترجمة وما يحسن تركه على نطق قريب من نطقه الأصلي المشترك بين اللغات المختلفة (فالترجمة هي وضع لفظ عربي مرادف للفظ الأجنبي، والتعريب هو وضع الصوت الذي تنطق به اللفظة الأجنبية في أحرف عربية) إنني هنا لا أؤيد رأيا ولا أعارض رأيا، لكنني أعرض نوعا من اختلاف الرأي في مشكلة مطروحة، تتعاون فيه الإجابتان المختلفتان، دون أن ينشأ بينهما ما يصح تسميته ب «صراع».
وهنالك حالة ثالثة من حالات الخلاف الفكري يكون فيها السؤال المطروح سؤالا واحدا محددا، فتجيء عنه إجابتان يظن أنهما مختلفتان على حين أنك لو حللتهما، وجدتهما مترادفتين متساويتين، وكل ما في الأمر بينهما هو أنهما وضعتا في عبارتين مختلفتين، ولا زلت أذكر سؤالا ألقاه علي أبي إذ كنت غلاما، إذ سألني: أيهما تفضل؟ برتقالة مقشرة أم برتقالة بغير قشر؟ فاندفعت مجيبا: أفضل برتقالة بغير قشر، فقال مازحا: ولماذا لا تأخذها مقشرة؟ فقلت: لكي أضمن نظافتها، وعندئذ لفت ذهني إلى أن البرتقالة بغير قشر هي نفسها البرتقالة المقشرة، والاختلاف هو في اللفظ لا في المعنى.
ومن أحدث الأمثلة في حياتنا الفكرية، على مثل هذه الحالة تلك المشكلة التي ما تفتأ تثار بين فريقين من الكتاب، وهي: أنعد اشتراكيتنا اشتراكية عربية أم نعدها تطبيقا عربيا للاشتراكية؟ فيجيب فريق بالإجابة الأولى حرصا على أن تكون اشتراكيتنا مطبوعة بطابعنا الخاص المتأثر بظروفنا الخاصة، ويجيب الفريق الآخر بالإجابة الثانية حرصا على وحدانية المبدأ الاشتراكي وعدم تجزئته، على أن الفريقين معا متفقان على أن الاشتراكية معناها بصفة عامة عدم استغلال الإنسان للإنسان، وفي اعتقادي أن الإجابتين مترادفتان برغم ما يبدو على ظاهرهما من تباين، فافرض - مثلا - أنني طرحت سؤالا عن القطن العربي ما طبيعته: أهو قطن عربي أم نبات عربي للقطن؟ فأجاب مجيب بالصيغة الأولى وأجاب مجيب آخر بالصيغة الأخرى، فهل ترى بينهما من خلاف في المعنى؟ كان اختلاف الرأي بين الفريقين عن الاشتراكية العربية ليكون ذا معنى لو أن كل فريق منهما عرف مفهوم الاشتراكية تعريفا يخالف تعريف الآخر له، أما وقد اتفقا على التعريف، بأنها هي عدم استغلال الإنسان للإنسان، ثم أراد كل منهما أن يميز التعريف العام بصفة تجعله خاصا بحال معينة، وكذلك أراد كل منهما أن تكون صفة «العربية» هي المميزة، فأي فرق بين أن تصف الاشتراكية بأنها عربية أو تصفها بأنها تطبيق عربي؟ المهم في كلتا الحالتين أن ثمة فكرة عامة متفقا عليها، ومميزا خاصا يقيد الفكرة العامة، وهو أيضا متفق عليه، فسيان بعدئذ أن تعبر عن هذا المعنى على هذا النحو أو ذاك ... هل مجلة الفكر المعاصر مجلة عربية؟ أو هي تطبيق عربي لفكرة المجلات؟ هل تعد تماثيل مختار نحتا عربيا أو تعد تطبيقا عربيا لفن النحت؟
وهنالك حالة رابعة، لعلها أن تكون أعوص الحالات، وأحوجها إلى دقة التحليل وحسن التوضيح، وأعني بها الحالة التي نتلقى فيها إجابتين مختلفتين من شخصين، على ظن منهما بأنهما يجيبان عن سؤال واحد، ويعالجان مشكلة معينة مشتركة بينهما، على حين أنهما في حقيقة الأمر يجيبان عن سؤالين مختلفين، كل منهما يتناول مشكلة غير المشكلة التي يتناولها الآخر، وسرعان ما تتعقد الخيوط الفكرية وتتداخل فتتعذر الرؤية الواضحة، وإنما يوقعنا في مثل هذا الخلط، أن يقدم لنا السؤال واحدا في صياغته اللفظية، لكنه في حقيقته يدمج سؤالين أو أكثر عن موضوعات مختلفة، فلو أردنا سلامة السير في مثل هذه الحالة، لوجب منذ البداية أن نفك المدمج، لنضع كل سؤال فرعي على حدة، وغالبا ما يحدث هذا الازدواج، حين ترد في السؤال المطروح لفظة ينقصها التحديد، بحيث يستطاع فهمها على أكثر من وجه واحد؛ أعني أن تكون هذه اللفظة الواحدة بمثابة لفظتين أو أكثر، كل لفظة منها تستقل وحدها بمشكلة قائمة بذاتها، فافرض - مثلا - أن المسألة المطروحة هي عن «الحقيقة» ما سبيلنا إليها؟ فعندئذ ترى من الفلاسفة من يقول إن السبيل إليها هو «الحدس»، ومنهم من يقول إن السبيل إليها هو «العقل» وآخرون يقولون بل السبيل إليها هو «الحواس»، أفلا يجوز في هذه الحالة أن يكون سر الخلاف بين أولئك وهؤلاء أن كلمة «الحقيقة» ينقصها التحديد، بحيث يندمج في هذه الكلمة الواحدة مشكلات عدة، فأخذ كل فريق من الفلاسفة مشكلة غير المشكلة التي أخذها الفريق الآخر؟ إذا تبين ذلك، كان ما بينهم من اختلاف هو أبعد ما يكون عن «الصراع»؛ لأن كلا منهم يلعب لعبته في ميدان مستقل.
تلك حالات أربع من اختلاف الرأي عند أصحاب الفكر، ألخصها لتكون مرئية للقارئ بنظرة واحدة، فيسهل عليه أن يرى الزعم الذي نزعمه، وهو أن «الصراع الفكري» لا يتحقق إلا في حالة واحدة دون سائر الحالات: (1)
অজানা পৃষ্ঠা