وثم وسيلة ثالثة نراها في التعليم وارتقائه بين الأمم المتمدنة، فمعظم الأمم الراقية الآن لا تقنع بالتعليم الابتدائي الإجباري، بل تتجاوزه إلى جعل التعليم الثانوي أو بعضه إجباريا، ولم يعد التعليم يجري على التقاليد القديمة، بل هو يماشي حاجات الثقافة الحديثة، ففي ألمانيا يتعلم التلاميذ في إحدى المدارس الابتدائية كيف يصنعون الطيارات ويركبونها، وفي معظم المدارس الألمانية أيضا يتعلم الصبي صناعة التصوير بالفتوغرافية.
هذه الأمثلة للتقدم، أي التقدم في الصناعة والأخلاق والتعليم، تدل على رقي محسوس لا يمكن أحدا منا إنكاره، وقد يمكننا أن نذكر بعد ذلك تقدم العالم في الصحة وفي العلاقات الأممية، كما يدل على ذلك ميثاق كيلوج وعصبة الأمم ومحكمة لهاي، وكلها ترمي إلى محو الحروب فلا نشك بعد ذلك في أن العالم يتقدم.
الفصل الرابع والخمسون
الاجتهاد
يستخدم علماء الشريعة الإسلامية السمحاء لفظة «الاجتهاد» لمعنى آخر غير المعنى اللغوي الذي هو استفراغ الجهد في تحصيل أمر من الأمور، فالمجتهد، في حدود الشريعة واصطلاح الأصوليين، هو ضد المقلد. أو هو الذي يستنبط الأحكام بذهنه ومنطقه حين يجد أن التقيد بالتقليد لا يعود بالمصلحة المنشودة للأمة.
وما أحرانا نحن بأن نكون «مجتهدين» أيضا، فلا نقلد الأدب أو العلم أو الحياة ذاتها وإنما «نجتهد» في استنباط الأساليب المثلى للمعيشة، فنلبس ونأكل ونسكن كما تلهمنا عقولنا، وكما يثبت لنا الاختبار والتجربة أن هذا الأسلوب أو ذاك هو خير ما يضمن لنا الراحة والصحة والسلام والطمأنينة، فليس علينا أن نقلد آباءنا وأسلافنا بلا روية ونعيش كما كانوا يعيشون، نلبس ملابسهم ونلزم أخلاقهم ونبني منازلنا على طرائقهم، وإنما علينا أن «نجتهد» ونستنبط ونصطنع أمثل الطرق التي تضمن لنا الفوز والراحة في هذه الدنيا، فتسير حياتنا في تجدد مستمر ولا تركد ذلك الركود الآسن الذي يرى الآن في الأمم الميتة .
والتجديد في الحياة يرمي إلى وضع العقل فوق النقل، وإلى العناية بالحاضر أكثر من الماضي، وإلى رعاية الخلف القادم أكثر من السلف البائد، وهو دليل على أن الأحياء ينبضون قوة ونشاطا يمرحون من حرية الحياة في ميدان فسيح لا تحوطه الأسوار ولا تقيدهم الأغلال.
وما أحرانا بأن «نجتهد» في الأدب فنستنبط فيه الوسائل التي تلائم حياتنا الجديدة وتجعله صورة لهذه الحياة يعمل في نقدها وبسطها، والتوسع فيها، غير قانعين منه بالتقليد ولزوم الطرق القديمة.
أجل إننا في حاجة إلى «المجتهدين» في الأدب وإلى المجتهدين في الأخلاق، ولكن أساس ذلك كله يجب أن يكون «الاجتهاد» في الحياة، ولن يكون ذلك إلا بأن نعمل عقولنا في طرق العيش الشائعة فنصلح ونستبدل منها غيرها ولا نرضى بشيء مما خلفه لنا السلف إلا ما يتفق والمنطق والعقل والمصلحة.
إن العلوم لم تتقدم إلا عندما خرج العلماء من التقليد إلى العقل، أي من التقليد إلى الاجتهاد، فبعد أن كانت الجامعات تعاقب الطالب إذا أخطأ في شيء نص عليه أرسطوطاليس صارت تكافئه إذا استطاع أن يقع على غلط لهذا المعلم الأول، ومما يروى بهذه المناسبة أن طالبا وجه نظر أستاذه عند بدء استعمال التلسكوب إلى أعلى أن على الشمس بقعا، فكتب إليه الأستاذ يقول: «لا يمكن أن يكون على الشمس بقع؛ لأني قرأت كتاب أرسطوطاليس مرتين من أوله إلى آخره، وهو قد قال إنه لا بقع على الشمس، فنظف منظارك فإذا لم تكن البقع عليه فهي على عينيك.»
অজানা পৃষ্ঠা