إننا نعيش الآن عصرا تدعونا مظاهره كلها إلى الشك في مبادئه وأغراضه وأخلاقه ونزعاته، فهل يجوز لنا الشك في كل شيء مع الجزم بفائدة الإعدام وحده؟ مع أن الإعدام حاسم لا يمكن الرجوع فيه أو التعويض منه، والإنسان عرضة للخطأ في كل أحكامه، وليس شيء في العالم نحن متأكدون من صحته، فيجب لذلك أن جعل لأحكامنا مجالا للمراجعة والتحرير، ولو رجعنا إلى أحكام الإعدام الماضية التي ذكرها التاريخ في الاضطهادات الدينية والسياسية العديدة لكانت حوادث الإعدام أكبر وصمة في هذه الاضطهادات.
إن كل من يدري شيئا من أسرار النفس البشرية يعرف أن الوحش القديم لا يزال حيا في كل منا، وأنه عندما يطمو بأحد في نزوات الشر فإنه لا قبل له في رده، ومهمة الحضارة استئناس هذا الوحش وتذليله ولكنه يجمح أحيانا ويخرج على العقل وعندئذ نرى القتل.
ولكن تذليل هذا الوحش الكامن بحكم الوراثة في نفوسنا يحتاج إلى عناية بالوسط، فإذا كان سيئا فإن الأرجح أن الغرائز الشريرة الموروثة تتغلب وتنطلق، ومن هنا قال رسكين، الأديب الإنجليزي المعروف، إن العقاب اللائق لأية جناية تقع ألا يؤخذ الجاني نفسه بل يقترع على سكان المدينة التي يقيم فيها ويؤخذ من يصيبه القرعة فيعاقب، وهو يعني بذلك أن الجناية تنبت من الوسط الذي يعيش فيه الجاني، فكل من في هذا الوسط مسئول عنها؛ ولذلك إذا أردنا العقاب فلنقترع عليه ما دمنا كلنا مسئولين.
وخير من معاقبة القاتل بجناية قتل أخرى أن نرقي هذا الوسط، فننشر التعليم والحرية ونقلل التفاوت في الثروة، ومع كل ما نقوم به من ترقية وتفريج للعواطف المحبوسة فإن الوحش القديم سيطمو بنا أحيانا وينزو نزواته، فنرتكب جريمة القتل في أنفسنا وفي غيرنا، ونحن نشفق على المنتحر، ونعرف أن أزمة الأعصاب التي وقع فيها انتهت بالقضاء على نفسه، ولكننا لا نشفق على القاتل، مع أن أعصابه قد تكون أحيانا في أزمة أشد من تلك التي تصيب المنتحر.
وفي السجن المؤبد بدل للقتل
الفصل الحادي والأربعون
التغلب على المصاعب
أذكرني حادث تعيين الدكتور طه حسين عميدا لكلية الآداب ثم استقالته منها، بحادث آخر في إنجلترا يصح أن يكون موضوع هذا المقال حتى يرى القارئ كيف يتغلب القلب الكبير والهمة الشماء والنفس العالية على المصاعب والعقبات.
فكما أن العمى لم يمنع الدكتور طه حسين من التفوق حتى يبلغ عمدة كلية الآداب فكذلك هو لا يمنع الآن الكابتن أيان فريزر من أن يكون نائبا في البرلمان الإنجليزي، ولكن أعظم مثال للهمة، تستهين بالعقبات وتتخطاها، هو بلا شك مثال هنري فوصت، فقد صار هذا العظيم مديرا للبريد في بريطانيا العظمى مع أنه كان أعمى.
ولد هذا الرجل سنة 1823 فلما شب التحق بجامعة كمبردج، وكان جميل الوجه مديد القامة ذكي الفؤاد، وكان مغرما بالخيل، فركب جواده في أحد الأيام وخرج في جماعة، ولكن جواده عثر به فسقط هنري فوصت واصطدم رأسه بالأرض صدمة عنيفة نهض منها وهو أعمى لم يبرأ طول حياته من العمى.
অজানা পৃষ্ঠা