لم يكن بيني وبين ذلك الرجل إلا علاقة عابرة؛ فقد كنا نقصد إلى مكان بعينه يومين أو ثلاثة من كل أسبوع؛ إذ كان كلانا يقصد إلى مقهى على حافة الصحراء، بالقرب من أهرامات الجيزة، ولم يكن يقصد إلى هذا المكان إلا نفر قليل متناثر، وكانت تجمعني مع ذلك الرجل شيخوخة تلتمس العزلة الهادئة وشمس الشتاء الدافئة، فكنا نجلس في طرفين متباعدين، لكننا مع ذلك - أو قل لكنني مع ذلك - كنت أحس كأنما كانت بيني وبينه صلة من حديث؛ كلانا كان يصرف وقته في قراءة، أما أنا فقد كنت أوثر دائما ألا أحمل معي سوى كتاب صغير؛ حتى لا يثقل علي حمله في الذهاب وفي المجيء، وأما هو فكثيرا ما كنت أراه يضع أمامه أكثر من كتاب في شكل القواميس؛ كانت قراءتي للتسلية لا للدراسة المتأملة، وأما هو فقد كنت ألاحظ على جبينه تقطيبة التركيز، وكان - فيما بدا لي على بعد - يقرأ سطرا أو سطرين، ثم يرفع عينيه ليرسل البصر إلى الأفق البعيد، أو ليصعده نحو السماء، مربتا بكفه على جبهته تارة، وعلى صدغه تارة.
وكان مرجحا أن يجيء اليوم الذي تنشأ لنا فيه فرصة اللقاء والحديث، وهذا ما حدث ذات يوم من أيام الآحاد؛ فقد شاءت لنا المصادفة أن نصل إلى المكان في لحظة واحدة، وأن نجد المقهى ممتلئا بزائريه على غير ما اعتدنا أن نراه؛ فلعله كان يوم عيد لطائفة من الناس، أو لست أدري ماذا كان، ولم يكن هنالك إلا منضدة واحدة خالية، كان لا بد أن نشترك فيها، فتبادلنا التحية لأول مرة، ولم نكد نستوي على مقعدينا حتى وضعنا الكتب على المنضدة وأخذنا في حديث نجمع أطرافه من هنا ومن هناك، ثم انتقلنا بخطوات طبيعية إلى مادة القراءة التي تشغل كلا منا، فما كان أبعد المسافة بينه وبيني؛ فكتابي هو الترجمة الذاتية التي كتبها جيمس جويس عن نفسه بعنوان «صورة شاب فنان»، وأما كتابه فهو الكتاب المقدس، وسرعان ما أنبأني عن نفسه - إذ لعله شهد شيئا من الدهشة في نظرتي - أنبأني عن نفسه أنه يطالع الكتب الدينية وملحقاتها من تفسير وتعليق وشرح، كان يقرأ تلك الكتب الدينية بغير تمييز بين كتاب وكتاب، باحثا فيها جميعا عن قصص يستغلها في كتابة أدبية يحاولها آنا بعد آن، وهو في ذلك على عقيدة بأن أمثال تلك القصص تلقي له من الضوء على أحداث عصرنا وتياراته، ما لا يلقيه أي كتاب مما تخرجه المطابع اليوم، ولعله مرة أخرى قد لحظ دهشته في نظرتي، فقال: نعم يا صديقي؛ إنني في هذه القصص القديمة أطالع عصرنا، إنها قصص لا تبلى جدتها، ولا تذهب نضارتها، إنها تحمل في ثناياها فطرة الإنسان شفافة صافية. هذه - يا صديقي - كتب خالدة، إنها كتب خالدة، وسر خلودها أنها قد نفذت إلى الأعماق في فطرة الإنسان؛ فربما تغير الإنسان بتغير الحضارة عصرا بعد عصر، لكنه تغير يمس السطح ولا ينفذ إلى الأعماق. إنها كتب لكل العصور، لو أحسنت قراءتها.
سألته: هل تشغلك اليوم قصة بعينها في هذا الكتاب؟
قال: نعم، تشغلني قصة شمشون مع دليلة، ولقد وقعت على مفتاح أقرؤها على هداه، فينفتح لي شيء من غوامض عصرنا؛ ذلك أن شمشون في «عهده القديم» كان متسقا مع فكر عصره وخياله، فالقوة هي قوة البدن، والسطوة هي لصاحب العضلات، والشجاعة هي شجاعة اللقاء بالأجسام؛ وكان أول لقاء لشمشون لقاء مع أسد هم بافتراسه إذ هو في بعض الطريق، فأمسك صاحبنا بالأسد كما يمسك الرجل القوي بجدي صغير، وشقه نصفين، وألقاه على الأرض كومة من أشلاء.
أما شمشون عصرنا، فهو حامل العلم بجبروته، وتستطيع - على سبيل المفارقة - أن تقول إن شمشون عصرنا هو الذرة الضئيلة التي لا تبصرها العيون بأقوى المناظير، ولكنها تفجر طاقاتها فتزلزل الأرض، وتهدم المدائن، ويفنى البشر.
قلت لمحدثي: هذا شمشون العصر قد عرفناه، فمن تكون دليلته التي تغويه؟
فأجاب: إنها السياسة حين تكون غاشمة طامعة تغوي العلم فتضله عن سواء السبيل، فلعنة الله عندئذ على ساس ويسوس وسائس ومسوس، كما قال الأستاذ الإمام.
واستطرد صديقي هذا ليقول: لبث العلم قرونا طويلة، وكأنه منوح وزوجته - وهما والدا شمشون في العهد القديم - لا ينسلان ولدا؛ إذ لبث العلم طوال تلك القرون كلاما في كلام، يملأ الصفحات بلفظ وراء لفظ، وبسطر بعده سطر، لكنها رموز لا تحرك الحديد ليطير أو يجري أو يغوص؛ فعاش منوح وزوجته عيش الرعاة، يصبح بهما الصبح ثم يمسي عليهما المساء، وحياتهما اليوم هي نفسها حياتهما بالأمس، لم يتغير منها شيء، إلا أن ينتجعا مع الغنيمات مكان الكلأ.
وذات ليلة تراءى للمرأة في حلمها ملاك من السماء يحمل إليها البشرى بحمل وولادة، لكنه يحذرها من أن تدخل في جوفها ما يفسد الجنين من شراب مسكر أو طعام نجس، قائلا لها إنها ستوهب صبيا منذورا لله، فلا ينبغي لفطرته أن تفسد بعنصر دخيل، وسيكون شعر الولادة على رأسه علامة الفطرة، تفسد إذا مسها الموسى، فإذا داخل الفطرة عنصر ليس منها، انقلب الخير الذي أراده الله، شرا أراده الإنسان.
وتحقق الحلم، وولدت المرأة ولدا، أطلقت عليه اسم شمشون، وكبر الصبي وعظمت قوته ، والتقى بشبل الأسد فمزق الشبل المزمجر وألقى به على الأرض ركاما، فما هي إلا أيام حتى عاد الفتى إلى ذلك المكان من الطريق، فإذا هو يلحظ خلية نحل قد حطت على رمة الأسد وأنتجت عسلا، فاشتار شمشون من العسل على كفيه، ومضى في طريقه يأكل، ويعجب لنفسه «كيف خرج من الآكل أكل، ومن الجافي حلاوة؟» فمن حيوان كاسر للإنسان يولد طعام للإنسان، ومن جيفة نتنة خرجت حلاوة العسل.
অজানা পৃষ্ঠা