ولكن هذه الحسنة لا تنفي أنها وقفت بصاحب القصة عند مستوى الحوادث لا يكاد يعدوها، حتى رجل الدين في القصة ترى عقيدته تنساب وكأنها هي الأخرى لغط من اللغط الدائر، وسمر من السمر.
قصة «الأرض» محاكاة للطبيعة، وإلى هذا الحد قد أصابت، ثم أفلت منها بعد ذلك ما لم يكن يجوز أن يفلت من الفنان الأصيل، وهو «الصورة» أو الإطار الذي يخلعه على تلك العجينة لكي تتخذ شكلا مفهوما، ودع عنك أن يعلو فوق هذا الإطار نفسه ليبين مفاتيح السلوك في المصري القروي الصميم. وإن شئت فقل إنها قصة تروى عما يدور في «الشعور»، لكنها تترك «اللاشعور» مقفل الأبواب والنوافذ، أو بعبارة أخرى، إن كاتب القصة قد عرف نفرا من الناس جيد المعرفة، وحكى عنهم، لكنه لم يستطع أن يعرف فيهم «الإنسان» في كل مكان وزمان.
هذا مثل واحد أسوقه من أدبنا القصصي؛ لا لأني أقصده لذاته، بل أسوقه لأوضح به ادعاء أدعيه، وهو أن أديب القصة عندنا يأخذ حفنة من مجرى الحوادث، ثم لا يضرب بفأسه ليستخرج ما وراء الحوادث من عناصر تبلغ بالثمار حد النضج والكمال.
الناقد قارئ لقارئ
1
عناصر الموقف ها هنا ثلاثة: كاتب، وكتاب، وقارئ. فلولا الكاتب وكتابه (وفي هذا يدخل الشاعر وقصيدته) لما كان قارئ؛ وبالتالي لما كان ثمة ناقد، وكذلك لو كتب كاتب كتابا لغير قارئ - في حاضر الأيام أو في مستقبلها - كأن يستخدم رموزا لا يفهمها سواه، لفقد الكتاب أخص خصائصه، وبطل بهذا أن يكون كتابا بالفعل والأداء؛ وإذن فعملية «التوصيل» من الكاتب إلى القارئ - عن طريق الكتاب - شرط ضروري لتكتمل للموقف عناصره.
لكن هذا القول لا يعني أن يتلقى الكتاب قراء كثيرون، فتصلهم رسالة الكاتب على درجة سواء؛ إذ ما دام الناس يتفاوتون في خبراتهم وفي معارفهم، فهم بالضرورة يتفاوتون فيما يستخرجونه من الكلمات المرقومة أمامهم، وبخاصة إذا ارتبطت تلك الكلمات بالحياة الوجدانية بسبب، ودع عنك ما يتفاوت فيه القراء - حتى خاصة الخاصة منهم - من إدراك المستويات المتعاقبة التي يمكن أن يتدرج فيها القارئ عندما يقرأ أثرا أدبيا ممتازا - قصيدة أو قصة أو مسرحية - فالكثرة الغالبة من هؤلاء القراء يقفون عند المستوى الأول، وهو مستوى الأحداث التي تجري كما ترويها الكلمات المقروءة، أما أن يصعد القارئ بعد هذه الأحداث السطحية إلى ما وراءها - إن كان لها ما وراء - من أبعاد نفسية ورمزية، فذلك ما يتعذر على تلك الكثرة، حتى يتصدى لها قارئ ممتاز، فيدرك «الماوراء»، ثم يكتب لسائر القراء ما قد أدركه، فعندئذ يكون هذا «القارئ الكاتب» ناقدا، وتكون كتابته عما قرأه نقدا، وبعدئذ يتغير المنظور كله أمام أعين القراء الآخرين بالنسبة إلى الأثر الأدبي المنقود، وكلما توالت الكتابات النقدية على الأثر الواحد، ازداد أبعادا وأعماقا وغزارة وغنى. خذ مثلا لذلك «الأرض اليباب» لإليوت، فقد تعددت عليها النظرات النقدية، فتعددت لها المستويات والأبعاد، فازدادت خصوبة وثراء، يقرؤها ناقد فرويدي النظرة فيخرج منها رمزا للخصاء والعنة، ويقرؤها ناقد آخر ليعلو بها إلى مستوى فوق المستوى الفرويدي، فيرى فيها رمزا للخوف من العقم الذي قد يصاب به الفن في هذا العصر، ويهبط بها ناقد آخر إلى مستوى أدنى، لينظر فيها باحثا عن شيء في الحياة الخاصة لكاتبها، فيجد فيها رمزا لإليوت نفسه حين جفت ينابيع نفسه قبل أن يتحول في عقيدته إلى المذهب الكاثوليكي، ثم يقرؤها ناقد اشتراكي فيرى فيها صورة من حيرة الطبقة البورجوازية، ويسأل كاتبها نفسه - بعد ذلك كله - هل أردت منها شيئا بذاته؟ فيجيب: نعم، أردت الرمز إلى الموجة الإلحادية الطاغية على عصرنا طغيانا مخيفا. فهل يكف الناقدون بعد هذا التفسير؟ كلا، بل يخرج لنا ناقد جديد ينظر إلى القصيدة نظرة أشمل وأعمق، يستعين فيها بمذهب يونج في علم النفس، فيقول إن «الأرض اليباب» رمز ل «الولادة الجديدة»، أو للبعث الشامل الكامل لحياة الإنسان وحضارته.
وقد تعجب، فتسأل: وهل يدس الناقدون أنوفهم في تأويل العمل الأدبي على أمزجتهم حتى بعد أن يقرر صاحبه ما أراده به؟ ثم قد تزداد عجبا حين تعلم أنهم في كثير من الأحوال يعدون أنفسهم أقدر على استشفاف المعاني الخبيئة وراء النص الأدبي من صاحب النص نفسه، ولو كان الإنسان قادرا دائما على فهم سلوك نفسه من سطحه إلى أعماقه، لما احتاج الناس إلى أطباء متخصصين، يلقون للمرضى النفسانيين الأضواء على تلك الأعماق، فيفهم المرضى أنفسهم بعد أن كانت مستغلقة. ونعود بالحديث إلى الناقد الأدبي الذي يجيز لنفسه أن يئول النص على نحو قد لا يرضاه كاتبه، فما حدث في هذا الصدد منذ أعوام قلائل، أن كتب الناقد الألمعي القدير ستانلي إدجار هايمان تقريظا لكتاب عنوانه «أقنعة الحب»، لمؤلفه روبي ماكولي، فقدمه للقراء على أنه قصة تخفي شذوذا جنسيا خلف ستار من العلاقات الجنسية الطبيعية، فما على القارئ الحصيف إلا أن يبدل بعض أسماء النساء في هذه القصة بأسماء رجال؛ لكي يستقيم له المعنى، وخصوصا أن ثمة أسماء من الصنف الأول لا تحتاج إلا إلى تحوير طفيف لتصبح أسماء من الصنف الثاني، كأنما أراد المؤلف بها أن يلفت نظر القارئ إلى ما ينبغي عليه عمله إذا أراد أن يفهم ما وراء السطح من هذه القصة، فما هو إلا أن سارع مؤلف القصة إلى الرد العنيف، قائلا إن الناقد قد أخطأ جادة الصواب في التأويل؛ إذ ليس في القصة ذرة مقصودة من الشذوذ الجنسي، وكل اسم قصد به ما استخدم له؛ فاسم الأنثى مقصود به امرأة، واسم الرجل مقصود به رجل. فهل سكت الناقد؟ كلا، بل رد على المؤلف قائلا: «إنه ليؤسفني أن السيد ماكولي (مؤلف القصة) يفضل - لأي سبب من الأسباب - أن يحرم نفسه أن يكون كاتب القصة الشائقة المتشعبة التي قرأتها له ثم وصفتها للقراء، ويختار لنفسه بديلا عن ذلك أن يكون كاتب القصة الهزيلة الفقيرة التي يصفها هو للقراء، وليس السيد ماكولي أول قصاص أنتج نتاجا أدبيا خيرا مما يريد أن يسلم به، ولعله لن يكون آخر قصاص في ذلك ، ولست على استعداد للفرار من ميدان القراءة النقدية لقصة من القصص، كلما هاج في وجهي مؤلفها مصرا على أن قراءتي لقصته لم تكن هي قراءته لها.» وإن هذه الحادثة الطريفة لتذكرنا بما قيل شبيها بذلك في مناسبات كثيرة، من أشهرها ما ذهب إليه النقاد في فهمهم لقصيدة ملتن «الفردوس المفقود» من أنها تمجيد للشيطان، برغم ما ظنه صاحبها فيها، فليست شهادة الأديب بذات قيمة إلى جانب النص نفسه وما يمكن أن يؤدي إليه.
هكذا يقرأ عامة القراء شيئا فيتعذر على معظمهم مجاوزة المستوى الأول في فهمه، حتى يطالعهم قارئ منهم ممتاز بقدرته ونفاذ بصيرته وصبره على التحليل، بأبعاد أخرى يكشفها لهم، فيزدادون علما بما قرءوا.
وإني لأسارع هنا إلى التفرقة بين ثلاثة رجال قد يختلط الأمر في شأنهم عند كثيرين، بل لعله قد اختلط بالفعل اختلاطا شديدا عند قرائنا، أما هؤلاء الرجال الثلاثة فهم: كاتب التعليق الأدبي على كتاب، كالتعليقات التي تنشر في الصحف عادة، والناقد، والفيلسوف الاستاطيقي. فأما أولهم فمهمته أن يقدم كتابا للقراء تقديما يظهر حسناته وسيئاته وشيئا عن محتواه، وهو غير ملزم في هذا التقديم أن يبرز مبدأه النظري في النقد؛ لأن ميدانه جزئية واحدة، هي الكتاب المعين الذي يعرضه. وأما الناقد فصاحب وجهة نظرية ينظر منها، لا إلى كتاب واحد بعينه، بل إلى كل كتاب آخر يعرض له، فبعد أن يتعدد النظر إلى «جزئيات» كثيرة، إلى عدد من قصائد الشعراء، أو قصص الأدباء ومسرحياتهم، تتكون لديه القاعدة النظرية العامة التي يختارها أساسا للنظر؛ فإذا كانت الأولوية عند المعلق الأدبي للجزئية المفردة، فالأولوية عند الناقد للنظرية العامة، ثم يأتي بعد ذلك مستوى أعلى في درجات التعميم، هو المستوى الذي يصعد إليه صاحب الفلسفة الجمالية (الاستاطيقا)، يقيمها على القواعد العامة نفسها، التي كان النقاد قد وصلوا إليها في مختلف الفنون. وهكذا يتجه السير خلال المراحل الثلاث من الجزئية إلى القاعدة إلى المبدأ الفلسفي العام، وصحيح أنها مراحل متداخلة الأطراف، لكن هذا التداخل لا ينفي أن يكون لكل مرحلة مميزها الخاص. في المرحلة الأولى ينحصر النظر أساسا في عمل واحد، وفي المرحلة الثانية يتسع النظر ليضع النظرية العامة لفن بأسره من الفنون، وفي المرحلة الثالثة يمعن النظر في الاتساع ليضع المبدأ الشامل الذي يصدق على الفنون كلها دفعة واحدة. وإذا كنا كثيرا ما نسمع شكوى من «أزمة النقد»، عندنا، فإن هذه الشكوى لها ما يبررها إذا أردنا «النقد» بمعناه الصحيح، وهو المعنى النظري المتكامل، لكن ليس لها ما يبررها إذا أردنا التعليق الأدبي على ما يصدر من آثار أدبية؛ لأن صحفنا مليئة - والحمد لله - بالتعليقات التي تعلو بطائفة وتهبط بأخرى، صدورا عما ليس يعلمه إلا الله من النزوات والدوافع.
অজানা পৃষ্ঠা