فالشعر، والأدب بصفة عامة، هو الذي يسن للناس الخلال، ويرسم أمامهم الطريق، ولا ينتظر ليملي عليه الناس بأي الخلال يشيد، وأي طريق يرسم؛ فهو إذن ضلال وتضليل أن يدعو الداعون إلى أن تكون مهمة الأديب تصوير الواقع كما يقع؛ لأن هذا الواقع لن تزيد واقعيته ذرة واحدة إذا وصفها الواصفون بألف قصة وألف ديوان، أما الدعوة الصحيحة فهي أن يلتمس الأدباء قيما جديدة وهم يحسون قبل سواهم ضرورتها لحياتنا، فيبعثون بها شعرا، أو يرسمونها في قصصهم حياة منظورة مسموعة.
لكن الشاعر أو القصاص - وهو يلتمس الطريق إلى قيم جديدة - لا يبتغي إلا أن يعبر عن قلقه هو ، وعن نشوته هو؛ فهو ينشئ فنه ليعيش فيه فرارا من واقع قائم، إن يكن قد لاءم طبائع الناس فهو لا يلائم طبيعته، وهل منا من يجهل ما قد عرف عن رجال الفن من انعزالية وشذوذ عن مألوف الجماعة؟ لكنها انعزالية سرعان ما ترتد أصداؤها إلى المجتمع الذي اعتزلوه، وشذوذ لا يلبث أن يعود إلى المجتمع نموذجا يحتذى، فهكذا كان الأنبياء وكان القديسون وكان الملهمون جميعا، يعتزلون لتمتلئ أنفسهم بالجديد، ثم يعودون ليصبوا هذا الجديد في أسماع الناس. وهكذا يخلق الموهوبون لذويهم ولمن يجيء بعدهم معايير سلوكهم، فلا العلماء يخلقون تلك المعايير لأنها ليست من شأنهم، ولا الساسة يخلقونها لأن السياسة تسوس أمور الواقع وتفض مشكلاته، أما الفن فهو وحده الذي يجعل تلك المعايير شغله الشاغل، يغيرها بما يتفق مع ما يحسه الفنان أولا، ثم يحسه من بعده الناس جميعا، لكن ربة الشعر امرأة، وهي كبقية النساء لا يطيب لها - بل لا ينبغي لها - أن تفصح عن مرادها إلا بالمراوغة والمداورة، فها هنا يكون الخط المنحني هو أقصر الطرق بين نقطتين، وعلى هذا النحو تكون طريقة الشاعر في تبليغ رسالته: يرسم لتلك الرسالة صورة من بعيد، حتى ليخيل إلى الرائي عند النظرة الأولى أن لا علاقة بين الأصل وصورته، إلا ما يحسه من إيحاء خافت أولا، يظل يزداد معه شدة، حتى ينتهي به الأمر إلى رؤية الحق كله في هذه الصورة الماثلة أمام بصره. ولعل شعراء الصوفية من أبرع من استطاعوا الوصول إلى تلك الغاية عن هذا الطريق، والصوفي والشاعر صنوان في طريقة الإدراك؛ كلاهما يرى الحق ببصيرته، لا ببصره، ويرسمه صورا موحية، لا واقعا مشهودا بالعين ملموسا بالأيدي.
إن الحياة إذا كان تيارها متدفقا متجددا، فلا تكون مقاييس غدها هي مقاييس يومها، ولا أقول مقاييس أمسها، والأدب إذا أراد لنفسه مكان الريادة والقيادة في حياة كهذه، اتجهت دعوته إلى ضرورات الغد وقيمه ومعاييره.
وعقيدتي هي أن أدباءنا في جملتهم قد قصروا دون هذه الغاية تقصيرا شديدا معيبا، وليتفضل من شاء أن يذكر لي من هو الأديب - بين أدباء هذا الجيل - الذي سبق حياتنا بحياته، وأحلامنا بأحلامه، من هو؟ وفي أي كتاب أو قصة أو قصيدة قد أبرز قيمة جديدة وجدها في نفسه الثائرة، فآمن بها، فأفصح عنها، وإذا الناس من بعده يؤمنون؟ أقول «من من أدباء هذا الجيل» لأنني لا أشك لحظة في أن أدباء الجيل الماضي قد خلقوا لنا الإحساس بالحرية خلقا لا أحسب أحدا ينكره عليهم.
أليس عجيبا أن يتدارك الساسة ما قد أهمله الأدباء؛ إذ وضعوا لنا قيما جديدة لحياة جديدة، مع أن الساسة بحكم طبيعتهم ينظرون إلى الواقع من قريب، وأما الأدباء فينظرون إليه من حالق؟
على أن القارئ يسيء إلي أشد الإساءة إذا فهم من كلامي أنني أريد للأديب أن يبلغنا رسالة في الأخلاق أو في أوضاع الحياة الاجتماعية تبليغا صريحا؛ فهذا هو ما يفعله معظم أدبائنا، وهذا هو ما أنكره عليهم، وهو هو بعينه ما سيجعلهم قصار الأجل، ونقادنا من ورائهم يشجعونهم على ذلك حثا لهم أن يدوروا مع عجلة الحياة حيث تدور، والصواب عندي هو أن يعكسوا الأوضاع، فيرغموا الحياة إرغاما على أن تنصاع لهم، فيكونوا هم الهداة، والناس على هديهم من خلفهم سائرون ولو بعد حين.
أبعاد القصة
1
متى يجوز لك أن تقول عن إنسان - ربطتك به روابط الحياة - إنك «تفهمه»؟
هذا سؤال لو استطعنا الجواب عنه جوابا دقيقا واضحا، استطعنا بالتالي أن نجيب عن سؤال آخر، وهو: متى نقول عن أديب القصة إنه صور الشخصية الفلانية فأجاد التصوير؟
অজানা পৃষ্ঠা