ومن هذا القبيل الألفاظ الجمالية التي نستخدمها في وصف التذوق الفني؛ فالرائي يقف أمام صورة مثلا، وفجأة تراه يتذكر من خبراته الماضية مواقف يجد بينها وبين هذه الصورة الماثلة أمامه وجها من الشبه، فيصف الصورة بنفس الكلمة التي يصف بها تلك المواقف المألوفة في حياته اليومية، كأن يقول مثلا: إن في هذه الصورة «رشاقة»، أو إن فيها «حرارة» أو «حركة»، وهكذا.
خذ إحدى هذه الكلمات، ولتكن «الرشاقة»، وسل نفسك: كيف جاءتني هذه الكلمة؟ وكيف تعلمتها؟ ثم ما معناها؟ تجد أن الطريقة الوحيدة لتعلمها هي أنها ارتبطت في ذهنك بأشياء، إن اختلفت في نواح فهي تتشابه في نواح أخرى تشابها يبرر أن نصفها كلها بهذه اللفظة الواحدة. وإنك لتعرف كيف تستعمل الكلمة استعمالا صحيحا، ولكنك قد لا تعرف أبدا كيف تحدد معناها تحديدا قاطعا جامعا مانعا. إنك تعرف متى تصف فتاة بالرشاقة، ومتى تصف إناء بالرشاقة، ومتى تصف طائرا بالرشاقة، ومتى تصف زهرة بالرشاقة؛ ففيم تتشابه هذه الأشياء الرشيقة كلها؟ أنقول إنها تتشابه في نحول الأجزاء ودقتها ورقتها؟ لكن هذا وحده لا يكفي؛ لأنني قد أرى الفتاة النحيلة الأجزاء فأصفها بالمرض ولا أصفها بالرشاقة؛ إذن فلا بد أن تضاف إلى النحولة حيوية الصحة ونشاط العافية؛ فإذا ما نظرت إلى صورة رقيقة الخطوط هادئة الألوان ووصفتها بالرشاقة، فإنني بذلك أضمها إلى سائر أفراد الأسرة التي توافرت لها الصفات التي تسوغ هذه التسمية، وبمقدار ما تكون لك القدرة على إيجاد الشبه بين الصورة وبين أشياء الحياة الجارية المألوفة في أمثال هذه الصفات الجمالية، تكون لك القدرة الذوقية؛ وإذن فما نسميه بالذوق الفني يرتد في نهاية التحليل إلى قدرة على تطبيق الألفاظ الجمالية على عمل فني.
وقد تسألني: ماذا تعني بقولك «لفظة جمالية»؟ وأجيب بأنك حين تكون بإزاء عمل فني - كلوحة مثلا - وتريد أن تتحدث عن ذلك العمل، فلن يخرج حديثك عن استعمال أحد نوعين من الكلمات: (أ)
فإما أن تستخدم كلمات لها دلالات محسوسة في أجزاء العمل الفني المعروض، كأن تقول مثلا: «لون أصفر»، أو تقول: «خط مستقيم». (ب)
أو أن تستخدم كلمات ليس لها دلالات محسوسة في أجزاء العمل الفني المعروض، كأن تقول مثلا عن لوحة ما إن فيها «حياة». بديهي أن ليس فيها حياة بالمعنى المعروف لهذه الكلمة، فهي لا تأكل ولا تشرب ولا تمشي؛ إذن فهذه الكلمة لم تستخدم لتشير إلى أي جزء محسوس مرئي يشار إليه بالأصابع، بل تشير إلى صفات مقدرة، وغير محسوسة بحاسة البصر، وإنما المعول في استخدامها هو التشابه من بعض الوجوه بين الصورة من جهة وبين الكائنات الحية من جهة أخرى، وصاحب الذوق الفني هو الذي له القدرة على إيجاد هذا التشابه، والقدرة على الوقوع على اللفظة المناسبة التي تحدد نوع هذا التشابه بين العمل الفني وبين أشياء الحياة الجارية. وإني لأخشى أن يظن ظان أن المسألة إن كانت كذلك فهي هينة، لكنه ظن بعيد عن الحقيقة بعدا بعيدا، ولطالما استمعت إلى أصحاب الذوق الفني وهم يطلقون أمثال هذه الكلمات الجمالية التي تلقي الضوء على أوجه الشبه بين العمل الفني وبين أشياء الحياة اليومية ومواقفها، فكنت أحس أحيانا أن كلمة من هذه الكلمات حين تجيء صائبة، تفتح مغاليق العمل الفني أمام عيني.
وقد يحدث أن صاحب الذوق الفني، إذ هو يصف العمل الفني بلفظة جمالية تبين سر جمالها، يرتب وصفه الجمالي هذا على وصف جمالي آخر، كأن يقول مثلا: في هذه اللوحة حيوية شديدة؛ لأن خطوطها حرة قوية جريئة، أو إن هذه اللوحة فيها تلقائية؛ لأن خطوطها تنساب في سهولة ويسر، أو إن هذه اللوحة متزنة لما بين أنغامها اللونية من تجاوب.
وفي مثل هذه الحالة التي يرتب فيها الناقد الفني صفة جمالية على صفة جمالية أخرى، يكون كمن يترك الخيوط سائبة الأطراف معلقة في الهواء. وفي رأيي أن التعليل الذوقي لا تتم دورته إلا إذا عاد الناقد فربط بين ألفاظه الجمالية التي لا تشير إلى شيء محسوس في اللوحة المعروضة أمامه - إن كان العمل المنقود لوحة - وبين شيء محسوس فيها، تراه العين بين أجزائها وتشير إليه الأصابع. وكأن يقول مثلا: إن هذه اللوحة رشيقة (الرشاقة لفظة جمالية لا تشير إلى محسوس) بسبب هذه الخطوط المنحنية (الخطوط المنحنية المشار إليها شيء محسوس)، أو إن هذه اللوحة ينقصها الاتزان (الاتزان لفظة جمالية) لكثرة الشخوص في جانبها الأيمن دون جانها الأيسر (كثرة الشخوص شيء محسوس)، أو لشدة اللمعان في أحد جانبيها دون الآخر (اللمعان شيء محسوس). وإذا لم يقدم لنا الناقد الفني الذي يعلل تذوقه لعمل ما شواهد حسية كهذه، كان كالذي ما يزال واقفا عند مرحلة التذوق وحدها لا يجد لها تعليلا نقديا. وأحسب أننا جميعا قد مرت بنا أمثال هذه الحالات، والواحد منا ينظر إلى صورة أو تمثال، أو وهو يسمع قطعة موسيقية أو قصيدة من الشعر؛ إذ هو يحس إحساسا قويا بما فيها من صفات جمالية يستطيع أن يفسرها تفسيرا جماليا بما يهتدي إليه من أوجه الشبه بينها وبين خبراته المعتادة المألوفة، لكنه يعجز عن تحديد الأجزاء الفعلية في العمل الفني الذي أحس نحوه هذا الإحساس؛ الأجزاء الفعلية التي قد أدت به إلى إحساسه ذاك، حتى يسعفه الناقد البارع، فيضع أصابعه على تلك العناصر الحسية في الأثر الفني، وعندئذ تراه يدرك على الفور أنه قد عثر على ضالته، أو أن غطاء قد انكشف عن المجهول فوضح أمام العين.
ومؤدى هذا الذي قلناه أن الذوق الفني يسير خطوتين؛ في الخطوة الأولى تكون لدى المتذوق قدرة على وصف العمل الفني بألفاظ جمالية، وفي الخطوة الثانية يربط هذه الألفاظ الجمالية بجوانب محسوسة في العمل المنقود، والفرق المنطقي بين الخطوتين هو أن الناقد الفني في الحالة الأولى يستخدم ألفاظا تصدق على أشياء كثيرة في وقت واحد؛ فليس هناك شيء واحد محدد هو الذي لا بد أن يوصف ب «الاتزان» - مثلا - بحيث لا يجوز أن يوصف شيء غيره بهذه الصفة، ولنفرض أن الأشياء التي يمكن أن تنطبق عليها كلمة «اتزان» هي إما «أ» أو «ب» أو «ج» أو «د»، كل واحدة من هذه الحالات لو وجدت في الصورة قيل عن الصورة إن فيها «اتزانا». وأما في الحالة الثانية فالناقد لا يكتفي بهذه اللفظة «العائمة» ثم يتركها لتعني أي شيء من الأشياء المختلفة التي قد تعنيها («أ» أو «ب» أو «ج» أو «د»)، بل يحدد معناها في الموقف المعين الذي هو فيه، فيقول إن في هذه الصورة التي أمامي الآن «اتزانا» لأن فيها «ب» (افرض أن «ب» معناها هنا تعادل الكتل اللونية في جانبي الصورة). بعبارة أخرى، موقف الناقد في الخطوة الأولى التي يستخدم فيها لفظا جماليا هو موقف «مفتوح»؛ أي أنه قابل لأن تدخل فيه أشياء كثيرة، وأما موقفه في الخطوة الثانية التي يشير فيها إلى شيء محسوس في العمل المنقود فهو موقف «مقفل»؛ لأن الأمر عندئذ يختم وينحسم بالإشارة إلى شيء واحد دون سائر الأشياء التي قد تعنيها اللفظة الجمالية في الحالة الأولى.
وأحب هنا أن أشير إلى أن هذا التحليل لا يصدق فقط على النقد الفني، بل هو بعينه ما نراه في مجالات كثيرة أخرى؛ فافرض مثلا أن أحدا وصف شخصا ما ب «الذكاء»، فلا شك أنه يكون عندئذ قد حدده بعض التحديد، لكن «الذكاء» كلمة يصح استعمالها في حالات متعددة، ولنرمز إلى هذه الحالات بالرموز «أ»، «ب»، «ج»، «د»؛ أي إن كل حالة من هذه الحالات يجوز وصفها بكلمة «ذكاء»، لكن الأمر ينحسم بالخطوة الثانية التي يقول فيها القائل إن هذا الشخص المعين موصوف ب «الذكاء» لأنه «قادر على التفكير المجرد»، أو «لأنه قادر على ربط العلاقات بين أشياء قد يبدو أن ليس بينها أية علاقة»، وهكذا.
على أن هذا الطريق ذا المرحلتين الذي حللنا به تكوين الذوق الفني، لا يجوز السير فيه إلا في اتجاه واحد، وإلا تعرضنا للزلل إذا نحن سرنا في الاتجاه المضاد - وكثيرا ما يكون هذا هو موضع الزلل بالنسبة للناقد المبتدئ - وأعني بذلك أنه إذا جاز لنا أن نقول عن صورة ما: إن هذه الصورة دافئة، بسبب هذا اللون الأحمر الباهت الذي نراه فيها، فلا يجوز أن أسير في الاتجاه المضاد فأقول: إن في هذه الصورة لونا أحمر باهتا؛ وإذن فلا بد أن تكون صورة دافئة؛ وذلك لأنه بينما صفة الدفء لا تتوافر ولا تتحقق إلا باللون الأحمر، إلا أن العكس قد لا يكون صحيحا؛ أي إنه قد يتوافر اللون الأحمر دون أن يسود في الصورة صفة الدفء. ولو قلت هذا بمصطلح منطقي لقلت: إن صدق المقدم في الجملة الشرطية يستدعي صدق التالي، لكن صدق التالي لا يستلزم صدق المقدم.
অজানা পৃষ্ঠা