ফি আলাম রুয়া
في عالم الرؤيا: مقالات مختارة لجبران خليل جبران
জনগুলি
نحن الذين صرفوا معظم العمر في المدن الآهلة نكاد لا نعرف شيئا عن معيشة سكان القرى والمزارع المنزوية في أعمال لبنان، قد سرنا مع تيار المدنية الحديثة حتى نسينا أو تناسينا فلسفة تلك الحياة الجميلة البسيطة المملوءة طهرا ونقاوة، تلك الحياة إذا ما تأملناها وجدناها مبتسمة في الربيع، مثقلة في الصيف، مستغلة في الخريف، مرتاحة في الشتاء، متشبهة بأمناء الطبيعة في كل أدوارها. نحن أكثر من القرويين مالا وهم أشرف منا نفوسا. نحن نزرع كثيرا ولا نحصد شيئا، أما هم فيحصدون ما يزرعون. نحن وهم أبناء قناعتهم. نحن نشرب كأس الحياة ممزوجة بمرارة اليأس والخوف والملل، وهم يرتشفونه صافيا.
بلغت مرتا السادسة عشرة وصارت نفسها مثل مرآة صقيلة تعكس محاسن الحقول، وقلبها شبيه بخلايا الوادي يرجع صدى كل الأصوات. ففي يوم من أيام الخريف المملوءة بتأوه الطبيعة جلست بقرب العين المنعتقة من أسر الأرض انعتاق الأفكار من مخيلة الشاعر، تتأمل باضطراب أوراق الأشجار المصفرة وتلاعب الهواء بها مثلما يتلاعب الموت بأرواح البشر، تنظر نحو الزهور فتراها قد ذبلت ويبست قلوبها حتى تشققت وأصبحت تستودع التراب بدورها، مثلما تفعل النساء بالجواهر والحلي أيام الثورات والحروب.
وبينما هي تنظر إلى الزهور وتشعر معها بألم فراق الصيف سمعت حوافر على حصباء الوادي، فالتفتت وإذا بفارس يتقدم نحوها ببطء، ولما اقترب من العين، وقد دلت ملامحه وملابسه على ترف وكياسة - ترجل عن ظهر جواده فحياها بلطف ما تعودته من رجل قط، ثم سألها قائلا: «قد تهت عن الطريق المؤدية إلى الساحل، فهل لك أن تهديني أيتها الفتاة.» فأجابت وقد وقفت منتصبة كالغصن على حافة العين: «لست أدري يا سيدي ، ولكني أذهب وأسأل وليي فهو يعلم.» قالت هذه الكلمات بوجل ظاهر، وقد أكسبها الحياء جمالا ورقة، وإذ همت بالذهاب أوقفها الرجل وقد سرت في عروقه خمرة الشبيبة وتغيرت نظراته وقال: «لا، لا تذهبي.» فوقفت في مكانها مستغربة شاعرة بوجود قوة في صوته تمنعها عن الحراك، ولما اختلست من الحياء نظرة إليه رأته يتأمل بها باهتمام لم تفقه له معنى، ويبتسم لها بلطف سحري يكاد يبكيها لعذوبته، وينظر بمودة وميل إلى أقدامها العاريتين ومعصميها الجميلين وعنقها الأملس وشعرها الكثيف الناعم، ويتأمل بافتتان وشغف كيف قد لوحت الشمس بشرتها وقوت الطبيعة ساعديها. أما هي فكانت مطرقة خجلا لا تريد الانصراف ولا تقوى على الكلام لأسباب لا تعرف مفادها.
في ذلك المساء رجعت البقرة الحلوب وحدها إلى الحظيرة، أما مرتا فلم ترجع. ولما عاد وليها من الحقل بحث عنها بين تلك الوهاد ولم يجدها، فكان يناديها باسمها ولا يجيبه غير الكهوف وتأوه الهواء بين الأشجار، فرجع مكتئبا إلى كوخه وأخبر زوجته، فبكت طول ذلك الليل، وكانت تقول في سرها: «قد رأيتها مرة الحلم بين أظافر وحش كاسر يمزق جسدها، وهي تبتسم وتبكي.» •••
هذا إجمال ما عرفته عن حياة مرتا في تلك المزرعة الجميلة، وقد تخبرته من شيخ قروي عرفها مذ كانت طفلة حتى شبت واختفت من تلك الأماكن، غير تاركة خلفها سوى دموع قليلة في عيني امرأة وليها، وذكرى رقيقة مؤثرة تسيل مع نسيمات الصباح في ذلك الوادي ثم تضمحل كأنها لهات طفل على بلور النافذة.
2
جاء خريف سنة 1900 فعدت إلى بيروت بعد أن صرفت العطلة في شمال لبنان، وقبل دخولي المدرسة قضيت أسبوعا كاملا أتجول مع أترابي في المدينة متمتعين بغبطة الحرية التي تعشقها الشبيبة وتحترمها في منازل الأهل، وبين جدران المدرسة ومثل عصافير رأت أبواب الأقفاص مفتوحة أمامها فصارت تشبع القلب من لذة التنقل وغبطة التغريد. الشبيبة حلم جميل تسترق عذوبته معميات الكتب وتجعله يقظة قاسية، فهل يجيء يوم يجمع فيه الحكماء بين أحلام الشبيبة ولذة المعرفة مثلما يجمع العتاب بين القلوب المتنافرة؟ هل يجيء يوم تصبح فيه الطبيعة معلمة ابن آدم والإنسانية كتابه والحياة مدرسته؟ هل يجيء ذلك اليوم؟ لا ندري، ولكننا نشغله بسيرنا الحثيث نحو الارتقاء الروحي، وذلك الارتقاء هو إدراك جمال الكائنات بواسطة عواطف نفوسنا واستدرار السعادة بمحبتنا ذلك الجمال.
ففي عشية يوم وقد جلست على شرفة النزل أتأمل العراك المستمر في ساحة المدينة، وأسمع جلبة باعة الشوارع ومناداة كل منهم عن طيب ما لديه من السلع والمآكل، اقترب مني صبي ابن خمس سنين يرتدي أطمارا بالية ويحمل على منكبيه طبقا عليه طاقات الزهور، وبصوت ضعيف الذل الموروث والانكسار الأليم قال: «أتشتري زهرا يا سيدي؟» فنظرت إلى وجهه الصغير المصفر، وتأملت بعينيه المكحولتين بخيالات التعاسة والفاقة، وفمه المفتوح قليلا كأنه جرح عميق في صدر متوجع، وذراعيه العاريتين النحيلتين، وقامته الصغيرة المهزولة المنحنية على طبق الزهور كأنها غصن من الورد الأصفر الذابل بين الأعشاب النضيرة. تأملت بكل هذه الأشياء بلمحة، مظهرا شفقتي بابتسامة. أمر من الدموع تلك الابتسامات التي تنبثق من أعماق قلوبنا وتظهر على شفاهنا، ولو تركناها وشأنها لتصاعدت وانسكبت من مآقينا. ثم ابتعت بعض زهوره وبغيتي ابتياع محادثته؛ لأنني شعرت بأن من وراء نظراته المحزنة قلبا صغيرا يستر فصلا من مأساة الفقراء الدائم تمثيلا على مرسح الأيام، وقل من يهتم بمشاهرتها لأنها موجعة. ولما خاطبته بكلمات لطيفة استأمن واستأنس ونظر إلي مستغربا؛ لأنه مثل أترابه الفقراء لم يتعود غير خشن الكلام من الفتافي الذين ينظرون غالبا إلى صبية الأزقة كأشياء قذرة لا شأن لها، وليس كنفوس صغيرة مكلومة بأسهم الدهر. وسألته إذ ذاك قائلا: «ما اسمك؟» فأجاب وعيناه مطرقتان في الأرض: «اسمي فؤاد»، قلت: «ابن من أنت وأين أهلك؟» قال: «أنا ابن مرتا البانية»، قلت: «وأين والدك؟» فهز رأسه الصغير كمن يجهل معنى الوالد، فقلت: «وأين أمك يا فؤاد؟» قال: «مريضة في البيت.»
تجرعت مسامعي هذه الكلمات القليلة من فم الصبي وامتصتها عواطفي مبتدعة صورا وأشباحا غريبة محزنة؛ لأني عرفت بلحظة أن مرتا المسكينة التي سمعت حكايتها من ذلك القروي هي الآن في الآن في بيروت مريضة. تلك الصبية التي كانت بالأمس مستأمنة بين أشجار الأودية هي اليوم في المدينة تعاني مضض الفقر والأوجاع. تلك اليتيمة التي صرفت شبيبتها على أكف الطبيعة ترعى البقر في الحقول الجميلة قد انحدرت مع جرف نهر المدنية الفاسدة، وصارت فريسة بين أظافر التعاسة والشقاء.
كنت أفتكر وأتخيل هذه الأشياء والصبي ينظر إلي وكأنه رأى بعين نفسه الطاهرة انسحاق قلبي، ولما أراد الانصراف أمسكت بيده قائلا: «سر بي إلى أمك لأني أريد أن أراها.» سار أمامي صامتا متعجبا، ومن حين إلى آخر كان ينظر إلى الوراء ليرى ما إذا كنت بالحقيقة متبعا خطواته.
অজানা পৃষ্ঠা