قلت لو كان لي لسانان لقال أحدهما مرحى! وقال الآخر في الوقت نفسه: أعوذ بالله!
إننا نحب أن نسمع الأنبياء وهم يخطبون والأبطال وهم يناضلون، والشعراء وهم ينشدون، وأصحاب الأغاني وهم يترنمون ... ولكن من من هؤلاء الأبطال يرضى أن تسمعه وهو في خاصة وقته بين أهله أو ندمائه! ومن من الناس في عصرنا يحب أن تنقل عنه كل كلمة قالها، وكل سر همس به وكل آهة من آهات الضعف فارقت شفتيه؟ إن الاستعاذة بالله هنا تحتاج إلى مائة لسان إذا كان الترحيب يكفيه لسان واحد، فليكن «وعيد» العلماء إذن من المستحيل، وإلا أصابهم منه ما يصيبون به الآمنين في القبور.
عشرون سنة بين هذه الجدران الأربعة!
قالها صاحبي وهو يؤذن بانتهاء السياحة التي أرادها أو أرادها الناشرون، وكأنها لم تكن ستقضي في حجرة أخرى من حجرات الاستقبال في بيت من البيوت؟
قلت: أكثيرة هي على هذه الجدران؟ فعلى أي الجدران هي ليست بالكثيرة؟
قال: لعلها كانت أولى أن تنقضي في التنقل من مكان إلى مكان، ومن حي إلى حي، ومن دار إلى دار.
قلت: إن السياحة يا صاحبي لها حجتها الناهضة، فما هي بحاجة منا إلى حجة جديدة، ولكن المكث في المكان الواحد أيضا له حجته التي تضارع حجة السياحة ولا تقصر عن شأوها، فإذا كانت مشاهدة الأمصار ومداولة الديار تعلمنا الحكمة وتبصرنا بألوان الحياة، فاعلم يا صاحبي أنني لا أعرف شيئا ينفذ بنا إلى حقائق الآمال والمخاوف، وبواطن الأفراح والأحزان، كمراسنا لها في المكان الواحد الذي يقل فيه التغيير.
إذا وجل القلب فهذا الكرسي يعلمني أن الخوف عبث، وأن الذي أخافه قد يخطئني ويسبقه إلي الذي أرجوه، فكم من مرة جلست عليه أطول النظر في أعقاب الأمور، وأقلب الظنون في كل وجه من الوجوه، ثم جاء الوقت المحذور ولم يجئ معه ما حذرناه!
وإذا تقطعت النفس حسرات على نعمة من نعم العيش، فهذه الشرفة تقول لي: بل انتظر طويلا أو قصيرا فسنرى كما رأينا، وسنعلم كما علمنا أنك ستعيش بغير هذه النعمة التي كنت تقرنها بالحياة، كما عشت الشهور والسنين بعد تلك النعم التي أدبرت، ثم زالت وكنت تترقب - بل تتمنى - أن تزول الحياة قبل أن تزول.
وإذا رجوت أو قنطت ذكرني هذا المقام أن القنوط يخدع كما يخدع الرجاء، وأن رجاء اليوم وقنوطه، كرجاء الأمس وقنوطه، كلاهما في طبائع الصدق والكذب سواء.
অজানা পৃষ্ঠা