وتلي صورة الجواري في سوق الرقيق صورة الينبوع العذب الصافي البرود، تكاد برودته تتراءى من صفاته في مجراه، وقد جعله «أنجرز» صبية كاعبا تنضح بالصباحة والطهارة وبراءة المحيا ونقاوة القسمات، وأعطاه عمرا وحياة كأنه لم يبلغ بعد سن الينابيع الكبار ، وكأنه بين موارد الماء الفياضة تلك الصبية الكاعب بين أمهاتها وجداتها من النساء.
وأصبحنا أمام الصورة الأصلية التي انفردت بين هذه النسخ المنقولة.
قال صاحبي: إنني أفهمها وإن لم أعلم بخبرها.
قلت: إنها لا تحتمل غير معنى واحد: فطيرة حلوة يشتهيها الجائع والشبعان، بل يشتهيها المتخوم والمكظوظ، وعليها صرصور وذباب يحوم، وفي القدح الذي يفرغ عليها الحلاوة عسل يضطرب فيه بعض الذباب ويموت، فلا يأكل من الفطيرة الحلوة على هذه الصورة شبعان ولا جوعان، بل تعزف النفس حين تراها عن كل طعام.
وقيمة الصورة أن تاريخ الفن كله - بل تاريخ العبادة من أوائله - مرتبط بالباعث على تمثيلها في هذه الرموز.
فقد وجد الفن في الدنيا؛ لأن النفوس تمتلئ بالشعور وتشتغل به كل الاشتغال، فلا تقنع به شعورا بل تطلبه حسا منظورا، ولا تشاء أن تظل فيها حاسة من حواسها فارغة من غير مملوءة بمثاله، ومن هنا نشأ التصوير ونشأ التجسيم، ومن هنا نشأت هذه الصورة اليوم كأنها أول اختراع لفن التصوير.
وكانت جولة الوداع في حجرة الاستقبال.
قال صاحبي وهو يستقر فيها: لقد سمعت عن حديقة الحيوان، وقرأت في وحي الأربعين عنها أنها «لا تجمع إلا الفنان أو المحب للفنون، سمي كل زميل من زملائها باسم حيوان يلاحظ في اختياره اتفاق الشبه في الملامح والعادات، وقد جمعها الفن كما كان أورفيوس المعروف في أساطير اليونان يجمع الأحياء حين يغني ويعزف، فتقبل عليه من كل فصيلة، وهي لا تشعر بخوف أو تهم بعدوان»، فهل لي مكان في جوار أورفيوس؟
قلت: إن طال استقرارك ظفرت بمكان، بعد الموافقة والامتحان، ولا تحسبن الطموح إلى هذه المنزلة من يسير الأمور التي تبلغ بغير عناء، فأولى لك أن تحسبه من الادعاء الذي يتطلب التزكية والشهادة، ولا تحسبه من التواضع الذي يقبل بغير تزكية ولا شهادة، فهل تدري من هم أكثر الناس حرصا على مظاهر الوجاهة، وشارات الثروة، وعناوين الفخار؟ إنهم أحدث الناس نعمة، وأقربهم إلى الضياع في غمار الوضعاء، والأذلاء إن لم يتميزوا أبدا بتلك المظاهر وتلك الشارات وتلك العناوين، وكذلك مقياس الإنسانية عندنا في هذه الحديقة؛ أصحاب الإنسانية المحدثة هم أحرص على مظاهرها وشاراتها وعناوينها، وأشبه الناس بالأحياء الدنيا من ينخلع عنه شعار الإنسانية باسم وعنوان، وإنما يقاس نصيب المرء من الإنسانية بمقدار عطفه على الحيوان، واقترابه من فهمه وفهم شعوره، فمن قام بينه وبين معاطفة الحيوان حجاز حاجب، فذلك حجاز بينه وبين الفهم والعطف والشعور، وهي أكرم مزايا الإنسان. قال صاحبي: أنا لا أنكر شيئا في الحديقة وترشيحاتها، ولكني أود أن أعرف كيف جمعتموها، وكيف جاءت هذه التسمية أو كيف اخترتموها؟
قلت: أحسبها تسمية ترجع إلى مرجعين لا إلى مرجع واحد، أحدهما قريب ظاهر والآخر بعيد باطن، فأقرب هذين المرجعين هو فن المحاكاة عند صديق من أصدقائنا الأعزاء، فما تقع عينه على أحد يلفت النظر إلا أسرع إلى تشبيهه ومحاكاته، فإذا هو شبه محكم، ومحاكاة تطابق الشبه من جميع وجوه المطابقة، ولا يعفي من هذه العادة ألصق الناس به وأقربهم إليه، بل هؤلاء هم في الغالب هدفه الأول، وإصابته المسددة، وخلقته هو على هذا القياس هي أول ما يستهدف وأول ما يصيب.
অজানা পৃষ্ঠা