وأخذ صاحبي يقلب في كتب الشيوعية والشيوعيين، فتوقف بعد قليل، وسألني مستغربا: ما هذا؟ خطب هتلر إلى جانب رسائل لنين، وكتاب عن تاريخ الشيوعية يجاور كتابا عن العنصر المختار من الآريين؟ ألا تتوخى ترتيبا لهذه الكتب أو هذه الرفوف؟
قلت: بلى، ترتيب ولا ترتيب، فأما الترتيب المفصل فلم أقصده ولم أشعر بالحاجة إليه، وأما المجمل فالذي تراه مثال لما أتوخاه.
دع هذه الرفوف مثلا وانظر إلى هذه الرفوف التي تليك، مؤلف صيني حديث معه مؤلف قديم، وشاعر من بني اليونان يصحبه ناقد من أبناء العالم الحديث، والجامعة بينهم كلهم أنهم شعراء، أو ينقدون الشعر، أو يتكلمون عن الشعراء.
ودع هذه الرفوف وانظر ناحية منها إلى الرف الذي يليه: لعله أعجب وأبعد في المقاربة - أو في المباعدة - بين الجيران والخلطاء، فهذا سفر عن بيتهوفن، تجاوره موسوعة عن الموسيقى، وينزل معهما سجل عن الطير ومجلد تفتحه، فلا تقرأ فيه كله صفحات مطبوعة، وإنما تسمع من بعض صفحاته أصوات الأحياء في المواسم المختلفة، وفي حالات الغضب والرضى والنفرة والحنين؛ لأنها صفحات من قوالب الحاكي لا من سطور الكتاب والشعراء، وعلى مقربة منها جميعا عالم يتكلم عن الرياضة والطبيعة والأوزان، وكلها من عالم واحد هو عالم الأصوات والأنساق والألحان، وما أنا بقادر على ترتيب لها يهديني إليها أقرب ولا أوفق من هذا الترتيب.
أما الجوار بين الشيوعية والنازية فيا له من جوار؛ هو جوار لو انتقل إلى عالم المحسوس لانبعث من هذه الرفوف القليلة فرقعة، لا تسمعها من ألف طربيد ولا من ألف غيمة تومض بالبروق والرعود، ولكنها لو انتقلت إلى عالم المعنى لكان الحوار بينها أقرب جوار وأوفق جوار.
قال صاحبي كالمستنكر: أجوار الشيوعيين والنازيين أقرب جوار وأوفق جوار!
قلت: نعم؛ لأن الفارق بين المذاهب الاجتماعية أو المذاهب السياسية - إن شئت أن تسميها بالسياسية - هو فارق واحد يهديك بينها جميعا، ولو بلغت المئات والألوف: هو الفارق في الحرية الفردية، أو هو الفارق في التبعة التي يحملها الفرد في علاقته بأمته، وبعالم الإنسان على اتساعه، فاحسبها مائة مذهب أو ألف مذهب أو ما فوق هذا أو ما دون ذاك، فإنما هي في النهاية مذهبان اثنان: مذهب يقدس الحرية الفردية ومذهب يستخف بها تقديسا لسلطان الدولة أو سيادة الزعيم، ولا عبرة باختلاف الأسماء والعناوين.
وإن شئت أن تعلم لأيهما الرجحان ولأيهما الغلب على طول الزمان، فالموازين التي توزن بها هذه المذاهب لا تحصى، وليس بينهما ما هو أصدق من ميزان التاريخ وميزان الأخلاق.
قال: وما ميزان التاريخ أو ميزان الأخلاق في هذه القضية؟
قلت: إن التاريخ لم يستقم قط في اتجاه واحد كما استقام في اتجاه الحرية الفردية، أو في اتجاه النهوض بالتبعة، وكذلك الأخلاق، فمنذ آمن الإنسان بروحه وعلم أنه مثاب على عمله لم يكن له تقدم قط إلا في هذا الاتجاه، ولم تقم على غير هذا الطريق قائمة من الأديان والأخلاق، والحركات الاجتماعية في كل زمان وبين كل قبيلة، فما تفاضل عصران ولا امتاز شعبان ولا فردان ولا خلقان إلا استطعت أن تحكم بينهما بميزان التبعة أو الحرية الفردية، ولن يكون الراجح منهما إلا أوفر الطرفين نصيبا من تلك التبعة أو من تلك الحرية؛ من أفضل الفريقين الطفل أو الرجل؟ العبد أو السيد؟ الجاهل أو العالم؟ المجنون أو العاقل؟ الهمجي أو المتحضر؟ الغالب أو المغلوب؟ الحيوان أو الإنسان؟ لا اختلاف في جواب هذه الأسئلة جمعاء، ولا اختلاف كذلك في أن الحرية أو التبعة تكونان حيث يكون الراجح المفضل من الفريقين.
অজানা পৃষ্ঠা