ফি আওকাত ফিরাগ
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
জনগুলি
مثل هذا الخطأ تجده في اعتباراته التمهيدية كما تجده في غيرها. والسبب أن المؤلف فيما يظهر شديد الإعجاب بعرب الجاهلية، فهو لا يرى إلا الوجه الحسن من تاريخهم، أو هو يريد أن يجدهم كما وجدهم غيره من كتابنا «مثال الكمال البشري». أو أنه ربما يسير في الكلام عنهم على قاعدة «اذكروا محاسن موتاكم».
كيف يكون ذلك من رأي جرجي أفندي زيدان؟ كيف يعتبرهم آلهة لا تتطرق الشهوات الإنسانية إلى نفوسهم، حيث يقول في كلامه عن نساء العرب في الجاهلية: «فاجتماع الرجال والنساء للمحادثة والمذاكرة على هذه الصورة بلا ريبة ولا سوء ظن لم يبلغ إليه الناس إلا في الأمم الراقية وفي أرقى جمعياتهم»؟ تصور ذلك وطبقه على حال العرب البدو الرحل. كم كان هؤلاء الناس ملهمين كل الفضائل والصفات العالية! كم كانوا عليه من العفة والطهارة! أو لو كان بينهم امرؤ القيس والكثيرون من أمثاله؟ أفلا يضر شيئا. ألا لا أظن الناس كانوا في زمن من الأزمان من العصمة بالمكان الذي يريد أن يحملنا جماعة الكتاب على تصوره للعرب. بل كانوا جميعا - العرب وغير العرب - يسعون إلى جهات الخير والشر. وليس الرقي دائما تابعا لما نعتبره نحن في مصر الفضيلة؛ بل أظن كثيرا من أهم فضائلنا - نحن المصريين - من معطلات الرقي. العرب كغيرهم، أمة عاشت في زمن مخصوص مدفوعة كغيرها من الأمم لإرضاء حاجاتها المادية وغير المادية إما بطرق حسنة وإما بطرق خسيسة. وليس أهون على من يريد الوقوف على ذلك من أن يقرأ أخبارهم كما جاء في كتبهم. والأغاني والأمالي وغيرهما بين أيدينا مثل حي على ما كان هناك.
أما أن يحسب كاتب أن تمثيل العرب في صورة من الكمال يحمل القراء على تحري مثلهم - أي أن يكون المؤرخ في الوقت عينه كاتبا أخلاقيا - فذلك وهم في تصوره وخطأ وتجن على التاريخ؛ هو وهم لأن المرء إنما يتأثر بالوسط الذي يعيش هو فيه أولا وقبل كل شيء. فإذا كان ثمت تأثير لمثل هذه الكتابة فهو ثانوي وبسيط، ولا يستحق أن يغير من أجله معنى الحوادث.
المؤرخ مطالب قبل كل شيء بأن يثبت حقيقة الوقائع والأشياء التي يتكلم عنها. فإذا لم يتمكن من إثباتها كانت غير تاريخية بالمعنى العلمي. وسواء كان في إثباتها إظهار لفضيلة أو بيان لرذيلة فليس ذلك ليجعل المؤرخ يغير من حقيقتها شيئا، وإلا خرج عن أن يكون مؤرخا.
التاريخ لا يكتب اليوم ليرى الناس صالح أعمال سلفهم فيتبعوه وسيئها فيتركوه كما كان يخبرنا المؤرخون القدماء. فقد أثبتت التجارب أن الناس يسيرون في طريق مرسوم لهم بالحوادث والأشياء المحيطة بهم. وليس يكفي أن يريدوا تغيير هذا الطريق ليتغير. كما أن التجربة أيضا دلت على أن السارق لا يكفيه أن يسمع أن السرقة عار أو أنها تؤدي إلى السجن ليرجع عنها. •••
لماذا إذن يكتب التاريخ؟ لماذا نكتب آداب العرب أو ندون علومهم؟ لماذا نضيع أعمارنا ونهب أنفسنا للبحث عن آثارهم؟ ... للسبب الذي من أجله يكتب الإفرنج آداب اليونان أو الرومان! وما هو ذلك السبب؟ ... الكثيرون منا وأكثر الذين تصدوا لهذا الموضوع يقولون: إنهم يكتبون أدب العرب حبا في العلم والحقيقة، وحتى يعرف أبناء العرب تاريخ أجدادهم ومجد هؤلاء الذين ملأوا الدنيا بفتوحاتهم وبأشعارهم! ثم ما دام الغربيون يكتبون آداب لغتهم وآداب لغات الأمم القديمة المدنية، بل ما دام منهم من يتصدى لآداب اللغات الشرقية، فمن العار أن نبقى - نحن الشرقيين - من غير أن نتحرك بأنفسنا لهذا العمل، بل من غير أن نقضي أعمارنا فيه! من العار أن نترك غيرنا يبحث عن نفائس لغتنا من غير أن نبدي نحن أكبر الهمة في ذلك! من العار ...! هذا ما يقوله الواحد منا في نفسه. وخوف العار هو الذي يدفع الأكثرين منا للعمل. فإذا تحركنا وبحثنا عن الحقيقة التي نريد ووجدناها ودفعنا العار بذلك عن أنفسنا لم نعرف ماذا نعمل بها وكيف نستفيد منها. وكأنا لا نعلم أن السعي وراء الحقيقة التي لا ننتفع منها بأكثر من أن نعرفها أمر لا قيمة له. وإذا كان كتاب التاريخ إنما يكتبونه ليوقفونا على أخبار الماضين من غير نظر إلى ما بعد ذلك فما أضيع تعبهم! إنما يكتب العلماء ويبحثون وينقبون عن الحقائق الماضية من أجل نفع الحاضر والمستقبل. أي: لتتبين لهم سلسلة حياة أمة من الأمم أو سلسلة حياة الإنسانية فيستطيعون أن يصفوا لها طريقها الممكن اتباعه في الحاضر للوصول إلى أكبر قسم من السعادة لأعظم عدد من الناس؛ وليكونوا على علم بما سيكون في المستقبل؛ حتى لا يكون عملهم الحاضر سببا في سوء ينال الأجيال المقبلة.
قضى الإنسان حياته شاغلا نفسه بالتفكير في مستقبله. وبما أن الأشياء الغامضة هي أكثر ما يلفت الذهن كانت نظرية ما بعد الموت هي الشاغل الأكبر لأهل العصور الأولى. فقدروا لحياتهم في القبور وجعلوا نصب أعينهم مثال الجنة والنار، وأشكال العذاب والثواب لكل واحد من الناس. ولا يزال - ولن يزال - من كبار المفكرين والفلاسفة من يشتغلون بالبحث عن مصير الإنسان. لكن الكثيرين منهم يرون في الحياة غاية الحياة؛ لذلك قام منهم من يوجه أكثر نظره لحاضر الأمم ومستقبلها. وإنما يصلون لذلك بملاحظة الحاضر وإثبات صورته، ثم النظر في التاريخ إلى أصوله. بذلك يمكن تقدير الطريق الذي تسير هذه الأمم فيه - وهذا هو الغرض من الأبحاث التاريخية.
هل يريد كتابنا ذلك حين يكتبون عن أدب العرب؟ هذا هو الذي كنا نريدهم أن يصنعوا. ولكنهم مع أكبر الأسف لم يصنعوه.
جرجي أفندي زيدان كان أحرى الناس على سعة معارفه التاريخية بأن يختط هذه الطريقة ويرمي لهذا الغرض. وأول المطلوب من المؤرخ الذي يرمي لهذا الغرض أن يتحرى في التاريخ الذي يكتب كل دقيقة وجليلة، وأن يفسر الحوادث بالدقة والضبط. وقد رأينا أن صاحب تاريخ آداب العرب لم يقم بذلك على الوجه الأكمل.
بل إن ما وقع فيه من الخطأ من هذا القبيل يتعدى المعارف التمهيدية إلى تاريخ أدب العرب، أي إلى موضوع الكتاب ذاته. مثال ذلك أن المؤلف جعل الجاهليين أبعد الناس عن المبالغة في تعبيراتهم، وإنما هم يصفون الطبيعة على ما هي عليه. ومع أني أقتصر على ما جاء في صلب كتابه من الأشعار أجد كثيرا منها يرد على نظريته هذه بقوة أعتقدها لا تدافع. فإذا كان هو يعتبر رثاء جليلة لكليب زوجها حين قتله جساس أخوها «بعيدا عن أن يوهم القارئ أن السماء انطبقت على الأرض، وأن الشمس كسفت ... إلخ»، فإن في أبيات المهلهل يرثي كليبا أيضا.
অজানা পৃষ্ঠা