ফি আওকাত ফিরাগ
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
জনগুলি
قبيل الغروب وقف بنا وابور النيل الذي كان يحملنا بجانب غيط مزروع، وكان يشتغل فيه رجلان لمح أحدهما ثعبانا غليظا قصيرا ففر وهو يصيح: (ثعبان ثعبان ثعبان.) أما الآخر فتقدم إليه حاملا فأسه وضربه بها عدة ضربات حتى قضى عليه، ثم تركه في مكانه وأخذ سلاحه وعاد إلى عمله، ولم يتكلم في أثناء ذلك بكلمة، وحينئذ تحرك زميله ومشى محترسا على أطراف قدميه شاخصا إلى الحيوان، واقترب منه بطيئا بطيئا ولما وصل إليه لمسه بطرف الفأس التي كانت في يده وقلبه مرة ثم مرة أخرى حتى إذا تحقق أنه مات صاح: (يا ابن الكلب!) وطعنه بالفأس طعنة قوية. ولما رأى الثعبان لا يتحرك أمسكه من ذنبه، وصعد به إلى الجسر وكان في هذه الساعة عامرا بالمارة فاستوقف الأطفال والنساء والرجال، وصار يقص الواقعة عليهم قائلا: (هجم علينا فقتلناه.) وفي آخر الرواية يلقي الثعبان على هذا الجمع فيفرقهم، وتصيح النساء ويهرب الأطفال، فيضحك هذا البطل الباسل من هذا الجبن، وما زال كذلك حتى جاء الظلام فانصرفوا جميعا وهو في مقدمتهم حاملا فريسته. أليس هذا هو الحال دائما في جميع مظاهر الحياة الدنيا؛ ترفع من رجال العمل عن حب الظهور، وجرأة من رجال القول على اغتصاب أعمال غيرهم والتبجح بها!
ورقة قاسم في الشعور والإحساس، وهذا الأسلوب البسيط الجميل في ألفاظه وفي تنسيقه، وهذا البعد عن الكلام الحوشي الغريب، وهذه الدقة في نقل الصور النفسية والخارجية، تظهر أيضا وبشكل أوضح في كلمته الآتية عن جنازة المرحوم مصطفى كامل:
11 فبراير سنة 1908 يوم الاحتفال بجنازة مصطفى كامل، هي المرة الثانية التي رأيت فيها قلب مصر يخفق؛ المرة الأولى كانت يوم تنفيذ حكم دنشواي: رأيت عند كل شخص تقابلت معه قلبا مجروحا وزورا مخنوقا، ودهشة عصبية بادية في الأيدي وفي الأصوات، كان الحزن على جميع الوجوه؛ حزن ساكن مستسلم للقوة مختلط بشيء من الدهشة والذهول، ترى الناس يتكلمون بصوت خافت وعبارات متقطعة وهيئة بائسة، منظرهم يشبه منظر قوم مجتمعين في دار ميت، كأنما كانت أرواح المشنوقين تطوف في كل مكان من المدينة.
ولكن هذا الاتحاد في الشعور بقي مكتوما في النفوس لم يجد سبيلا يخرج منه، فلم يبرز بروزا واضحا حتى يراه كل إنسان.
أما يوم الاحتفال بجنازة صاحب «اللواء»، فقد ظهر ذلك الشعور ساطعا في قوة جماله، وانفجر بفرقعة هائلة سمع دويها في العاصمة، ووصل صدى دويها إلى جميع أنحاء القطر.
هذا الإحساس الجديد، هذا المولود الجديد الذي خرج من أحشاء الأمة، من دمها وأعصابها، هو الأمل الذي يبتسم في وجوهنا البائسة، هو الشعاع الذي يرسل حرارته إلى قلوبنا الجامدة الباردة، هو المستقبل.
ليتك عشت يا قاسم حتى كنت ترصد بلغتك الجميلة المتأثرة، وبإحساسك الدقيق، صور الحركات القوية المنبعثة من أعماق نفس هذه الأمة، والتي كنت تتوق أن تراها فترصد للخلف آيات ما يفعل أهل هذا الجيل، ولكن المنية فاجأت قاسما وهو لا يزال في ريعان القوة فتركنا تاركا لنا من تفكيره وكتابته أبدع الأثر، ممليا علينا أن: «اللذة التي تجعل للحياة قيمة ليست حيازة الذهب ولا شرف النسب ولا علو المنصب، ولا شيء من الأشياء التي يجري وراءها الناس عادة، ولكن أن يكون الإنسان قوة عاملة ذات أثر خالد في العالم.»
توماس وودرو ولسن
أسلم توماس وودرو ولسن روحه أول من أمس، فودع هذا العالم المضطرب الذي جاهد ليكون فيه نبراس هداية للناس، ينقلهم من ظلم الحرب إلى ربوع السلام، فإذا الناس كما كانوا قبل الحرب لا يزال يغريهم منظر الدم بالدم، ولا يزالون يفرحون بكلمة الهدى ساعة ليندفعوا في تيار الضلال دهرا.
مات الدكتور ولسن رئيس الولايات المتحدة السابق، ومن ذا الذي لا يعرف الدكتور ولسن! ومن ذا الذي لم يردد اسم الدكتور ولسن! بل من ذا الذي لم ير هذا الضياء العظيم الذي نشره روح ذلك الرجل الكبير، ومن ذا الذي لم يحدق بهذا الضياء ذاهلا معجبا به مأخوذا عن نفسه، فملك عليه الإعجاب كل حسه حتى نسي ضعة الناس وحقارتهم وتعلقهم بتافه شئونهم وعبادتهم دنيء شهواتهم، وخيل إليه أنهم يستطيعون أن يعتنقوا طفرة مبادئ هذا الرسول الجديد، وأن يرتفعوا عن الدنايا، وأن يتخطوا هذا العالم الأفن الذي يعيشون فيه إلى عالم جديد هو عالم المحبة والصفاء والسلام.
অজানা পৃষ্ঠা