شاعرية الألفاظ
ما أقوى العلاقة القائمة بين الشعر وبين الحالات النفسية! وعندي أن التأثر النفسي بالشعر أقوى الأسباب التي تدعونا إلى نقد الشعر؛ ذلك بأن المعايير النقدية التي يخضع الشعر لسلطانها، على اختلافها وتباينها، تتضاءل جميعا إذا قيست بالمعيار النفسي. على أن للمعيار النفسي في نقد الشعر عوامل كثيرة، منها الموسيقى المستمدة من القافية والروي، ومنها قوة الخيال، ومنها الاتجاه الذي يتوجه فيه الشعر ... إلى غير ذلك، وجميعها عوامل تؤثر في المعيار النفسي في نقد الشعر. غير أن أقوى هذه العوامل تأثيرا معيار النقد النفسي للشعر، إنما ينحصر في شاعرية الألفاظ.
فقد نسمع من كثير من النقاد أن هذا الشاعر بارد الأنفاس، وأن ذاك غير ماهر في اختيار الألفاظ، من غير أن نحدد المعنى المقصود من أمثال تينك العبارتين تحديدا يرضاه المنطق وتقره طبيعة العقل؛ إذ هي ترمي دائما إلى تحديد معنى لكل لفظ مفرد، وإلى تحديد معنى لكل عبارة تكونت من ألفاظ. فإذا أردنا أن نحدد ما يعصر من عبارات تجري بها في العادة أقلام النقاد والكتاب، وجب أن نرجع بها إلى أصولها النفسية، حتى نستطيع أن نفسرها تفسيرا منطقيا يقبله العقل وتقره ما فينا من طبيعة الميل إلى تحديد كل المعاني التي نتخذ الألفاظ والعبارات وسيلة إلى التعبير بها.
والواقع أننا نقول إن شاعرا بارد الأنفاس، وإن آخر غير ماهر في اختيار الألفاظ، إنما نعبر بهذا عن حقائق نفسية، تنزل من أنفسنا منزلة أبعد الأشياء اندساسا في أغوار الفطرة؛ فقد نعلم أن من الحقائق النفسية ما دعاه النفسيون: «تداعي الأفكار». فإن اللفظ الجميل المعنى يدعو إلى الفكر دائما كل المعاني الجميلة التي تلابسه أو تقاربه، ولفظا قبيحا أو محزنا يدعو إلى الفكر كل المعاني التي تدانيه أو تمت إليه بسبب من الأسباب. مثل ذلك إذا قلت «الشاطئ المخضوضر»، دعت هذه العبارة إلى ذهنك كل المعاني الجميلة التي تلابسها؛ فالنهر المنساب، والماء الصافي، والظل الوارف، وصوادح الطير، والرضا النفسي، والأخذة الروحية؛ كل هذه المعاني تؤاتيك غير مختارة لمجرد أن العبارة الأولى قد حملها وعيك، فدعا معها جميع المعاني التي ترتبط بها، وجميع الملابسات المرحة الجميلة التي تلازم الشاطئ المخضوضر. وإذا قلت «القبر الصامت»، أو «الصحراء المجدبة»، دعت هذه العبارة إلى وعيك جميع المعاني المحزنة التي تلابس القبر والصحراء المحزونة الصماء.
هذه الحقيقة لها في نقد الشعر أعظم الأثر، فإن لفظا جميل المعنى حسن الملابسات يدعو إلى الذهن شتى المعاني الأخاذة الجذابة، إن ورد في سياق الشعر أحدث في النفس شعورا بالرضى والجمال، وزاد إلى موسيقى الشعر القائمة على جمال الوزن والقافية، موسيقى نفسية تزيد الشعر تأثيرا في النفس، وتفتق الخيال، فيشرف الوعي من خلال ذلك اللفظ على آفاق من الجمال اللامتناهي تزيد من قيمة الشعر بقدر ما يكون لألفاظه من أثر في استدعاء ألوان الجمال أو التأمل أو العظة أو الحكمة ... إلى غير ذلك. وعكس هذا تماما ما يحدثه لفظ رديء الملابسات فاسد المعنى. وهذا ولا شك ما يقصد النقاد إذ يقولون بأن الألفاظ شاعرية، على أن شاعرية الألفاظ إنما يحددها دائما استعمال اللفظ من حيث ينبغي أن يستعمل، فيكون مطابقا تماما لمقتضى الحال.
الشرق والثورة
حدثني صديق ممن تجمعني به ذكريات عزيزة؛ ذكريات الثورة المصرية (1919)، عندما كانت أنفاسنا حارة كاللهب المضطرم، وكانت أرواحنا مشبوبة كاللظى المتأجج؛ لهيب الشباب ولظى الفتوة. لم يكن عهد الكهولة قد أصاب شيئا من تأملنا أو حفزنا بعد إلى اللجوء إلى قواعد المرجحات العقلية التي هي عندنا اليوم أشبه شيء بقانون المرجحات الرياضية؛ فإما أن نرضاها، وإما أن نعتقد أننا على غير صواب، وأننا إلى الشطط أقرب. حدثني ذلك الصديق عن الشباب وعن أيام الجهاد المستمر والسعي المتجدد في سبيل إذكاء روح الثورة في نفس الجماهير، وذكرني بما كان لنا من مواقف نعجب الآن كيف خرجنا منها وفينا نفس يردد أو عرق ينبض. كيف لم يحصدنا الرصاص؟ وكيف لم تسل أنفسنا على شفرات السيوف؟ كيف هزأنا بالموت غير مقدرين أن الموت كان أقرب إلينا من حبل الوريد أشهرا طوالا بل أعواما؟ وكيف خلصنا من جميع هذا بأرواحنا سليمة وجسومنا لم يصبها كلم واحد؟
قلت له في خلال الحديث: ما أشهى تلك الأيام! فإن للمخاطرة بالروح جمالا لا يدركه الإنسان إلا بعد أن يفوز بالسلامة. ذلك جمال أشبه بجمال الفقر الذي لا يدركه الإنسان إلا بعد أن يلوذ بالغنى. ولعل الأمر على عكس ما يخيل إلينا، ولعل الواقع أن المخاطرة والنقد ليس فيهما من جمال، وأن ما نستشعر من جمال منهما بعد الفرار من آصارهما قد يكون جمال الذكريات الماضيات؛ إذ تحيي في النفس جزءا من ماضيها، وتطبعها بطابع قديم كاد يبلى على الأيام.
قلت لصديقي: من لنا بمثل تلك الأيام؟
قال الصديق: نعم، نحن في احتياج إلى ثورة؛ إلى ثورة طاحنة تمضي بكل ما يقف في طريقها، وتأتي على كل ما يقاومها، ثورة شيطانية لا عقل لها، ثورة مبرأة من الرشاد والحب والنهى؛ ثورة طائشة مجتاحة تأكل الحرث والنسل، ولكنها ثورة لا تنال من الجسوم ولا من الحطام؛ ثورة لا شأن لها بنظام قائم ولا بحكومة ولا بجيش ولا بأسطول، ثورة منزهة عن السيف والمدفع وعن المدية والخنجر؛ ثورة لا يقوم بها جمهور من الناس ولا جماعات منهم، بل ثورة فردية يشنها كل فرد منا على نفسه؛ ثورة نفسية يتسلح فيها كل فرد منا بالإرادة ويروح يهدم من أخلاقه ومن ميوله ومن نزعاته التي كونها فينا تاريخنا القديم؛ ثورة تقتل فيها الإرادة حبنا للسلامة وتواكلنا على الأقدار وصمتنا عن الحق والحق مهضوم مأكول، كأنما قد أصبحنا جميعا شياطين خرسا، والساكت عن الحق شيطان أخرس؛ ثورة تحطم مثلنا الأخلاقية القديمة، لتتبدل بها مثلا عليا من تلك المثل التي قادت أوائلنا بجيوشهم ومدنيتهم وعلومهم من شاطئ بحر الظلمات إلى جوف الصين.
অজানা পৃষ্ঠা