الحقيقة أن المنطق لا يحبونا إلا بأضعف أنواع القياس، يزودنا بما يدعوه المناطقة قياس التمثيل، ومحصله تطبيق الحالات السابقة على حالات واقعة، وهو أضعف أنواع القياس المنطقي، على أنه يوهمنا على أية حال بأن نصيب المدنية الحديثة سيكون كنصيب غيرها من المدنيات القديمة.
ولقد مثل الأستاذ «مكدوغل» الإنجليزي لدورات المدنية بخط منحن يأخذ في الارتفاع من نقطة ليبلغ إلى أقصى القمة التي يمكن أن تبلغ إليها المدنية، وهنالك يشتد انحناؤه، فإذا بلغ الانحناء أشده، انحط مرة أخرى انحطاطا فجائيا يمثل سقوط المدنيات.
وأغلب ظني أن تمثيل الأستاذ «مكدوغل» غير صحيح؛ فإن «دورات المدنية» يصح لدى الواقع أن يمثل لها بخطوط منحنية تتسلقها الشعوب شعبا بعد آخر خلال الأزمان، غير أنه لا يصح مطلقا أن يمثل لسقوط المدنيات بخطوط شديدة الانحدار تبلغ من انحدارها حدا يصل إلى حيث بدأ خط الدورة في الارتفاع؛ لأن هذا إنما يدل على أن المدنيات كانت تبيد تماما ولا تخلف وراءها من أثر ترثه عنها المدنيات التي تتلقح بها وتأخذ عنها. والمعروف أن كل مدنية حديثة إنما هي مجموعة صور تستخلص من مدنيات قديمة بحيث تحدث ألفة جديدة. إذن فدورات المدنية يمكن أن يمثل لها بخطوط منحنية تأخذ في الارتفاع رويدا رويدا لتبلغ إلى قمة الدورة، غير أنها لا تسقط فجأة بل تبقى حيث تصل ليبدأ خط منحن آخر في الارتفاع من نهاية القمة التي بلغ إليها الخط الأول، فالدورات المدنية على هذا عبارة عن خطوط ارتقائية يعلو أحدها الآخر إلى ما لا نهاية.
والدليل على هذا أن التاريخ لا يثبت مطلقا أن شعبا تسلق خط المدنية مرة ثم رجع إلى حالة من الهمجية، كانت هي بعينها الحالة التي بدأ من عندها تسلق خط الدورة، التي مثلت مدنيته. والحقيقة أن السلالات عندما تبلغ حدا من المدنية، تتحجر مواهبها وصفاتها، فيتعذر عليها التقدم وتقف عن السير إلى الأمام. وهنا تبرز سلالة أخرى، تأخذ بيد المدنية الإنسانية إلى قمة أعلى من القمة التي بلغت إليها الأولى، وعلى هذا لا يكون من تقهقر مدني، بل استحجار وجمود، ينتاب سلالة من السلالات، فيلوح لنا كأنه انحدار وفساد.
ولا شبهة مطلقا في أن هذه القاعدة سوف تسري على المدنيات الحديثة، غير أنها ستكون أقل ظهورا؛ لأن حركة التسلق كانت في الأزمان القديمة سريعة، ولأن ميراث المدنية لم يثقل كاهل الشعوب بما يثقله به ميراثها الحديث، وكذلك كانت نسبة السرعة في الاستحجار والوقوف. أما في عصرنا هذا فسيكون التسلق بطيئا، وكذلك ستكون نسبة السرعة في الاستحجار؛ ولهذا ستلوح خطوط الدورات المدنية أقل انحناء ولكن أعلى قمما، وكذلك سيكون تعاون الأمم على حمل بعضها البعض في مدرج الارتقاء أكبر آصرة؛ لأنه من المستحيل عندي أن تستطيع سلالة بمفردها أن تتسلق خط الدورة المدنية وحدها في الزمن الحاضر. ومما هو أشد استحالة عندي هو أن تستمر سلالة وحدها في التقدم على بقية السلالات في التسلق إلى القمة من غير أن يحل بها النصب وينتابها الكلال.
حول علم الأخلاق والعلوم الأخرى
يقول بارتلمي سانتهيلير في مقدمته لكتاب الأخلاق إلى نيقوماخوس ما يلي: «فليس على علم الأخلاق إذن إلا أن يستمر في عمله واثقا من أنه سوف يجني ثماره حتى في أشد البقاع محلا، بشرط أن يستكشف الحق أو يزيد في قدره.» ونحن نتساءل: هل يمكن لعلم الأخلاق أن يستكشف الحق؟ بل هل يمكن لفرع من فروع المعرفة الإنسانية أن يطمع في استكشاف الحق. إن في ذلك لتقييدا للنظرية الأخلاقية، يخرجها من الحيز العملي إلى حيز الغيبيات، وإذا لم نستكشف الحق فكيف نستطيع أن نزيد من قدره في جهة ما من جهات المعرفة الإنسانية، لا جرم أن هذا يكون غير مستطاع؛ لأن العلم بازدياد قدر شيء من الأشياء يستلزم أولا معرفة طبيعة الشيء في ذاته.
ثم نقتطع من تلك المقدمة عبارات أخرى فيها ما يدعو إلى إنعام النظر والتأمل، فهو يقول مثلا: «لا شك في أنه لا يلزم البتة الحط من صحة العلوم الطبيعية، ولا من صحة العلوم الرياضية، على الأخص، ولكنها لا تزال بعيدة عن صحة علم الأخلاق، فإن القضايا التي تعلمنا إياها هذه العلوم، والحقائق التي تكشفها لنا، هي إما منازع فيها وإما يقتضي تفهمها ملكات ليست لجميع العقول، فأما أولاها (العلوم الطبيعية) فإنها خارجة عن الإنسان، فتقتضي مشاهدات خارجية صعبة ومحوطة بالشكوك غالبا، بل مستحيلة أحيانا، والأخرى (العلوم الرياضية) إنما هي سلاسل طويلات من الاستدلالات، لا يكاد يكون التمشي معها ميسورا.»
وهنا نسائله: أليس هذا هو الحال بعينه في علم الأخلاق؟ ثم يقول: «وأما في علم الأخلاق فالأمر على ضد ذلك، كل منا يحمل في نفسه جميع ما يشتغل به هذا العلم من الموضوعات التي - لأنها كلها حقيقية - لا تنفك ماثلة تحت أعيننا، فليس علينا أن نخرج عن أنفسنا لنتعرفها، بل حسبنا أن نسأل أنفسنا بانتباه وإخلاص، لنظفر بأجوبة لا يتطرق إليها الخطأ، وما هذه الأجوبة من قلب شريف عدل يعرف أن يخرس الأثرة والشهوة إلا كأجوبة الوحي حقيقة بالتصديق لأنها لا تخدع البتة. ومع التسليم بأن هذه الأجوبة كان يمكن أن تختلف في العصور القليلة الرقي، وأنها لا تزال يختلف بعضها عن بعض، عند الشعوب القليلة المواهب، فإنها عندنا الآن أجوبة متماثلة ثابتة.
لندع جانبا تلك الخلافات، التي لم تكن فاسدة بالمرة، فهي على الأقل غير ثابتة، ولنؤكد من غير أن نخشى الزلل أن حقائق علم الأخلاق في الساعة الراهنة عند الأمم المتمدنة ليست منذ الآن محلا للجدال بين النفوس الفاضلة، وأن تلك الحقائق لا خوف عليها. يمكن أن يقع الجدال في النظريات، ولكن لما أن سلوك الناس الأخيار، هو في الواقع واحد، أيلزم حتما أن يكون بينهم قدر من الحق مشترك، يستند إليه كل واحد منهم، من غير أن يستطيع مع ذلك في الغالب أن يقف غيره عليه ولا أن يدركه هو نفسه؟ ومن النادر أن يقع إجماع الآراء على طريقة بسط مذهب بعينه، مهما أجيدت ومهما بلغت من الحق، ولكن من الأفعال ما هو مقر عليه عند جميع الناس، وبين أن هذا الإقرار العام سببه، أن هذه الأفعال تابعة لمبادئ مسلمة عند الجميع وتقع على مقتضاها، من حيث لا يشعر الفاعل في غالب الأحيان.»
অজানা পৃষ্ঠা