2
مكتفيا هنا بما تجلى من خطأ الفكرة الزمانية جملة وتفصيلا، وقوة فكرة اختصاص البيئات بالدراسة، وأنها هي التي تجري على قواعد المنهج العلمي الصحيح، ولا تقف عند ظواهر ساذجة من التشابه والمشاركة السطحية في فنون الأدب العربي وحياته، وبهذا تخص الأندلس والمغرب ومصر والشرق الإسلامي الأقصى، والشرق الأقرب؛ كل دراسة خاصة مفردة، على أساس ما يستبين من تمايز البيئات.
ومن هنا تكون الدراسة الأدبية لمصر وحدها، هي الخطة العملية المثلى، كما كانت وفاء بواجب اجتماعي حيوي، إلى جانب أنها مصلحية عملية، قائمة على المشاهدة الجلية، والاختبار القريب». ••• «إقليمية الأدب» هي قضية العلم في تاريخ الأدب، قضية العلم التجريبي التي يقررها واثقا، حينما يتحدث عن علاقة الكائن ببيئته، وأثر تلك البيئة بنوعيها، من طبيعية واجتماعية، في الحي الذي يعيش فيها ويختص بها.
يقررها هذا العلم التجريبي واثقا حينما يرصد الفوارق الفاصلة بين البيئات، ويدرك أن مصر قد تميزت من ذلك بمميزات واضحة الفصل، قوية التأثير في التحديد والتمييز، من بحار وصحاري، وبمقومات خاصة جعلت هذه البلاد وحدة مادية بارزة المعالم، جلية الخصائص، ماثلة الفوارق. «إقليمية الأدب» هي قضية العلم التي لا يتسع فيها المجال لترديدات احتمالية، واعتبارات كلامية؛ تساق لإرضاء هوى من الأهواء، أو تأييد ميل من الميول، اعتمادا على فلج الحجج، واللحن بها، كما يجري ذلك في الميادين الكلامية والأبحاث اللفظية. وقضية العلم تلك إذا ما ارتفعت على تأثير البحث النظري، فأولى بها أن ترتفع، بل وتتمنع على نواحي التأثير الفني من الاستهواء والخلابة، واللباقة الخطابية، والمبالغات الصناعية، فلا ينال كل أولئك منها شيئا، أو تثبت غيرها شيئا. «إقليمية الأدب» قضية يصدق القول بها على الجزيرة العربية نفسها، كما يصدق على الإمبراطورية العربية أو الإسلامية - أو ما شئت أن تنعتها - فأما صدق هذه القضية العلمية على تلك الإمبراطورية فقد مضى ما يكفي فيه، وأما صدق هذه الفكرة في الجزيرة نفسها، وتقرير أن هذه الجزيرة - أو شبه الجزيرة - العربية لم تؤلف في حياتها وحدة جامعة شملت البحرين، واليمن، والحجاز، والعراق، في الحياة اللغوية والأدبية، كما قد يشيع تقرير ذلك في تاريخ العربية وأدبها. لم تؤلف الجزيرة هذه الوحدة لأن بيئتها قد حالت بالغمر الصحراوي الجدب الذي يتوسطها، دون أن تؤلف هذه المناطق وحدة متجانسة أو أجزاء مترابطة، وسيأتي لذلك فضل بيان شاف عند الموازنة بين البيئتين المصرية والعربية. وإنما تعجلنا ذلك هنا ليقدر منكرو الإقليمية أنها متحكمة في أقرب ما عرفوا من وحدة، وما نسوا من واقع. «إقليمية الأدب» تصحيح مادي لخطأ شائع لن ينصره شيوعه، كما لن يعوق هذا التصحيح أنه جديد أو غير مألوف، أو لم يشعر به القدماء، أو لم يتقبله المحدثون بعد، فما كانت البيئة الجامعية لتؤمن بذلك الشعار السخيف في إيثار الخطأ المشهور على الصواب المهجور. على أن العهد بتاريخ الأدب وتقسيمه لم يبعد ولم يطل، حتى تكون له أصول راسخة يستعصي تعديلها أو يشق تغييرها. فتلك حركة حديثة عهد بوجود، وهي أحدث عهدا بالتنسيق العلمي والتقسيم الصحيح، فلا عليها إن أصاخت للنقد، واستفادت من التصحيح ما استطاعت.
وإني من جانبي لشديد الإصاخة إلى هذا النقد، والالتماس لذياك التصحيح، وفي سبيل ذلك سأقف عند مكتوبات ومقولات، لعلها هينة، يسيرة الخطر، ولكنها الحقيقة المحببة لذاتها، والتحري الواجب أمانة للدرس، آخذ نفسي به، وألتزمه؛ ليكون القول بالإقليمية نزيها صحيحا ما استطعت إلى ذلك سبيلا.
حول الإقليمية «إن رأي الإنسان في أي موضوع - غير الرياضيات والطبيعيات - لا يستحق اسم المعرفة، ما لم يكن صاحبه قد سلك في تكوينه طوعا أو كرها، تلك الطريقة التي ينبغي عليه اتباعها في مجادلة خصم عنيد، ومناظرة قرن شديد.»
ستيوارت ميل
إذا ما كانت إقليمية الأدب هي قضية العلم في تاريخ الأدب وحياته - وإنها لكذلك لا غير - فلا موضع بعدها للعب بالألفاظ وإثارة جدل نظري الأدلة والمقدمات، ولكنها الرغبة الصادقة في أن يطمئن الدارس للفكرة اطمئنانا لا ينفره عنه تشكيك لفظي، ولا ترديد كلامي؛ ومن أجل ذلك أوثر أن أعرض لما شاع حول هذه الإقليمية من ريب أو ظنون، سمعت بعضها من أفواه قائليه، وقرأت بعضها في كتابتهم. ولئن آثرت النظر في المكتوب من ذلك أولا، فليس لفضل قوة فيه، من أجلها أقدمه؛ وإنما لأنه أكثر تحددا بعبارة صاحبه ضبطا في نصه.
والذي قرأت من ذلك مكتوبا هو فصل لأحد أبنائنا الجامعيين من رسالة في العالمية، كل قيمته أنه مما جرى به قلم شاب، والشباب أقبل للجديد، وأكثر إقداما على التصحيح، على حين هم أقوى شعورا بالشخصية والقومية، لما تنبه إليه عصرهم منها، وما جاهد به في سبيلها، فمما ورد في إنكار الإقليمية قوله: «فنحن نجد المؤرخين للأدب العربي يذهبون إلى أنه وجدت آداب قومية في المملكة الإسلامية مع ابتداء القرن الرابع الهجري.» كما يقول: «ونحن نعود فنحترس ثانية من فكرة الإقليمية في الأدب العربي، وما يذهب إليه الباحثون من أنها نشأت مع القرن الرابع.»
ومع أن فكرة الإقليمية في أصلها لن تحتمل التعرض لتقرير مثل هذا القول الجامع عن المملكة الإسلامية، ولن تطمئن إلى شيء من هذا التحديد بقرن خاص تعده بدءا موحدا، لظواهر متفاوتة مختلفة، لا تعترف لها بوحدة؛ فإنا مع ذلك كله لا نعرف من مؤرخي الأدب العربي من ذهب هذا المذهب في تحديد الزمن، إلا أن يكون ذلك لمحا سريعا غير منضبط من صنيع «الثعالبي»، حين ألف كتابه «يتيمة الدهر» عن شعراء الأقاليم، كما تشير إلى ذلك عبارة هذا القائل حين يقول: «ولعل صاحب اليتيمة هو أول من أعد لهذه الفكرة؛ إذ قسم كتابه إلى أقسام أربعة بحسب الدول والأقاليم.» وفي كل حال، إذا كان من مؤرخي الأدب العربي، أو من الباحثين من ذهب إلى هذا التحديد، فإن هذا التحديد الجامع الموحد لنشأة الآداب الإقليمية، خطأ يناقض الأساس العقلي الذي قامت عليه فكرة إقليمية الأدب، وهذا الأساس هو: «أن لكل بيئة منفردة مزاياها وخصائصها التي تنفرد بها بين الأقاليم، وتلك المزايا والخصائص هي التي توجه الحياة الأدبية فيها وتؤثر في سيرها، وباختلاف هذه المميزات المادية والمعنوية تختلف حياة الإقليم الأدبية، ويختلف نظام سيرها، من نشأة وتدرج وتفرع، وعلى هذا فلا محل لحذر الكاتب وتحذيره حين يقول: «ينبغي دائما أن نحذر تحديد نشوئها - الآداب الإقليمية - لأن أحدا لم يعن بهذا اليوم».» •••
অজানা পৃষ্ঠা