وآمل أن تطيب بذلك نفوسكم معي، وأن يصح إيثاركم للحقيقة الجاهرة - ولو آلمت - على الوهم الخادع والادعاء الزائف ولو راج وأجدى، أو هوش ودوى. (2) خطة وادعة لدعوة مغيرة
تلك هي الوقفة الخاصة التي رغبنا في أن نلفت بها النظر إلى أثر الإقليمية على المنهج، فنكون بالقولة العامة في درس الأدب وتاريخه، وباللفتة الخاصة إلى أثر الإقليمية على هذا الدرس، قد أشرنا إلى الخطوط الكبرى، والمعالم العامة في تقسيم هذا الدرس وتوزيعه، ووضع منهجه على الطريقة، التي يبدو لنا أنها الصواب، ونرجو أن تؤمن المعاهد الأدبية معنا بصوابها؛ فتأخذ بها فيما تزاول من درس، غير متأثرة في ذلك بإلف قديم، أو اطمئنان إلى ماض متبع. •••
وما نريد أن يكون لهذه الدعوة ضجيج خلاف، ولا ضوضاء جدال، مما تأيف به نوايا من يحاولون الإصلاح فيفسدون به جهدهم، ويفقدون قواهم في هذا الخلاف وذياك الجدال، ويخلقون بسلوكهم غير الصائب أعداء لتفكيرهم الصائب؛ لأنهم ينظرون إلى الشخوص والذوات، مثل ما ينظرون إلى الأفكار والآراء، بل ربما كانوا إلى ذواتهم أكثر انتباها وأشد عناية، فيحملهم ذلك الانتباه، وتدفعهم الرغبات النفسية الخفية فيهم، أو المقصودة لهم، على أعمال وأقوال ليست من خير أفكارهم وآرائهم في شيء، وإن كانت من حيث ما تحدث من دوي، وما تثير من صخب، ذات أثر فعال في سير أسمائهم، واشتهار أمرهم، حتى ليحملهم ذلك على التحرش بأشياء، والتهجم على أشياء، لا تتصل بما هم فيه، أو لا أقل من أنها لا تتصل به اتصالا قويا قريبا، ولا يتوقف عليها شيء من إثباته وتقريره؛ فيهيجون بذلك النفوس، ويوغرون الصدور، ويثيرون أصحاب المنافع والمصالح، أو ذوي العصبية واللدد، وكثير منهم تعوزه الدقة المفرقة بين ما هو من صميم الرأي، وما هو من حواشيه وأطرافه، فيندفع أولئك المصلحون المتعقبون أو الشعبيون المجادلون، إلى ضرب من الخلط المشوش، ينتهي بهم إلى رفض الصحيح المقبول، في سبيل إبعاد الباطل المردود. ولا تبعة عليهم؛ لأن الخاصة أصحاب الفكرة، هم الذين أهاجوا مثل هؤلاء فأفقدوهم التوازن الفكري، وبلبلوا سلامهم النفسي، وقد كانوا أهلا لأن يقارفوا مثل هذا الخطأ المخلط وهم هادئون، فكيف وقد أهيجت حفيظتهم، وهوجمت مسلماتهم ومقدساتهم؟!
في سبيل مجانبة هذا الخطأ وملاقاة هذه المضار، أحرص دائما على أن ألقي القول في هدأة وحيطة، مثبتا الأقل، حين يحق لي إثبات الأكثر، جاعلا المؤكد المسلم في صورة المحتمل المردود، مستمسكا بما لا يجري فيه تشاح، ولا يهون له إنكار، وقد أوفت بي تلك الخطة الوادعة على ما رأينا من نتائج بشأن هذه الإقليمية، التي تقوم على تأثير البيئة المادية بفطرتها، والمعنوية بعواملها المختلفة، ورأينا مصر إقليما تميزت بيئته وتفردت، فأصبحت دراسة مصر وحدها هي الوجهة الصحيحة في تقسيم درس الأدب وتاريخه، ووجب على هذا الأساس أن نعدل ويعدل الدارسون، عن تلك القسمة الزمانية التي لا ترتد إلى أصل معقول، ولا تقوم على أساس مفهوم؛ لأن هذه الدولات وتلك الحكومات، بل الحياة السياسية كلها، ليست إلا خيطا واحدا في نسيج الحياة، وما هي إلا عامل فرد في العوامل التي تأتلف منها البيئة المعنوية، فكيف يحكم عامل واحد من عوامل متعددة، تتألف من جملتها البيئة المعنوية، في حياة الكائنات المعرضة لتأثير هذه البيئة بمؤثراتها المتعددة؟ وكيف يهمل ما عدا هذا العامل السياسي من الاقتصاد والاعتقاد؟ بل كيف يهمل ما قبل ذلك كله، من أساس وطيد، فطري، ثابت، هو البيئة المادية والطبيعية الفعالة ؟! •••
ولقد استبان من كل ما مضى، من ألوان الخلف التي عرضنا لإبطالها، أن هذه الوحدة الأدبية المدعاة، التي ينظرون إليها مجتمعة مستمسكة، لتؤرخ في عصور مختلفة، هي وحدة لا وجود لها، ولا وجه لادعائها، واستبان مع القصد في الدعاوى، والتريث في الإثباتات، أن الإقليمية وأثر البيئة أصل علمي يصلح لأن يعتمد في درس الأدب وتأريخه، فيرد ذلك الدرس إلى وضع مستقر، ويهيئ له تقسيما تتميز فيه الأقسام، تميزا لن ينكر ولن يجحد، فلا محل بعد اليوم للقول بأننا ندرس أدبا أمويا أو عباسيا، أو ما بعد سقوط بغداد أو قبل سقوطها، وما إلى ذلك من فواصل مزعومة لا تقوم على أساس مؤثر في حياة هذه الآداب، مغير لها تغييرا يفهمه البحث الصحيح، أو يحترمه. (3) معالم المنهج
وقد رأينا من النظرة العامة في درس تاريخ الأدب على ما فهم المحدثون منه، ما ينبغي أن يكون وجه الرأي في تقسيم هذه الدراسة وتنسيقها (انظر [كيف ندرس الأدب المصري؟ - أدب وتاريخ الأدب]) متبعين في بيان هذا الذي ينبغي، تلك الخطة التي سميناها الخطة الوادعة غير المتهجمة، ولو أنها منكرة، مبطلة، مغيرة. ثم رأينا أثر الإقليمية الخاص على منهج الدراسة، إذ تقضي مراعاة الإقليمية بربط دراسة العروبة في كل بيئة خاصة، بالرجوع إلى ماضي هذه البيئة وملاحظة صلتها المادية والمعنوية بتلك العروبة في جزيرتها، ثم بها بعد هجرتها عن الجزيرة إلى مواطنها الجديدة، وكيف جرى الأمر بينها وبين ما في تلك البيئة من المعنويات في الاتصال والاختلاط، وكيف تبادل الوافد والمتوطن التأثر والتأثير.
وعلى هدى هذه الحقائق التي نعتقد أننا فرغنا من درسها، ونعتقد أن القارئ قد انتهى معنا إلى التسليم بها، غير مغالط ولا مورط؛ على هدى هذه الحقائق نستطيع أن نشير إلى المعالم الكبرى لمنهج الدراسة الأدبية، بل لعلنا بعد الذي أنفذنا من بيان نستطيع وضع منهج دراسة العروبة وآدابها في مقارها المختلفة، حين نصف دراستها في موطن من تلك المواطن هو مصر. نعم نستطيع ذلك في طمأنينة؛ لأن من هذه الدراسة للعروبة ما تشترك فيها الأقطار التي حلت فيها العروبة جمعاء ، ثم منها ما تتشابه نظمه، ما دامت تحتكم في تلك النظم فكرة الإقليمية، ويصدق الإيمان بتأثير البيئة الذي يقضي به العلم، وتثبته التجربة، وتراه في الفنون أجلى وأوضح وأفعل.
ومن هنا سيكون بياننا لمنهج درس الأدب المصري وتاريخه بيانا صالحا للانتفاع به في غير مصر من منازل العربية، وإليك المعالم الكبرى لهذا المنهج.
العربية في جزيرتها درس مشترك
هذه العربية في مهدها الأول أصل مشترك بين الأمم التي خالطها العرب فيما بعد، وشاطروا في دمائها وحياتها، فلا بد لكل أمة من تلك الأمم التي عرفت هاتيك العروبة، أن تعرف هذا العنصر من عناصر وجودها، وتمنحه من العناية الدارسة، ما لا بد منه لفهم عنصر جوهري مما يأتلف منه كيانها. ومن هنا تكون الجزيرة من حيث هي بيئة مادية لهذه العربية قد تأثرت بها، كما تأثر بها كل كائن عاش فيها؛ تكون هذه الجزيرة موضوع الدرس المادي المختلف، من طبيعة الأرض والمناخ، وما تقلبت به العهود المختلفة، وأدوار التاريخ المتتابعة، فتدرس جغرافيا وجيولوجيا، وجويا، وما إلى ذلك من دراسة عالمية حديثة للأقاليم.
অজানা পৃষ্ঠা